08 نوفمبر 2025

تسجيل

أزمات متتالية وتحديات قادمة

19 مارس 2012

يبدو أن المتحكمين في تسيير القطاع المالي العالمي مستمرون في تعظيم الثروات من خلال التلاعب بالمشتقات والمضاربات الحادة في البورصات وأسواق المال، وهم لم يستثنوا في ذلك أيا من السلع، بما في ذلك السلع الغذائية. والحقيقة، أنه لم يسبق وأن تعرضت أسعار السلع في الأسواق الدولية لمثل هذه التقلبات الحادة، مثلما يحصل حاليا، وإذا كان ذلك مفهوما في السلع الثمينة، كالذهب والنفط، فإنه غير مفهوم بالنسبة للمواد المرتبطة بحياة الناس اليومية وصحتهم. وإذا كانت أسعار الذرة قد تضاعفت بسبب استخدام منتجاتها في إنتاج الوقود الحيوي، فإن ارتفاع أسعار القمح في ظل وفرة في الإنتاج أمر لا يفسر بغير محاولة لتعظيم الأرباح من قبل المجمع المالي العالمي المهيمن على أسواق السلع. وفي كل الأحوال، فإن الأسباب والمسببات لارتفاع الأسعار تكون قد جهزت وروج لها إعلاميا ليتم تقبلها، فأسعار القهوة على سبيل المثال تضاعفت في الآونة الأخيرة ليصل سعر الرطل الواحد إلى 3.22 دولار، مقابل أقل من دولارين قبل سنتين، مما حدا ببعض المراقبين إلى إطلاق اسم "الذهب الأسود" على القهوة، تلك التسمية التي كانت تطلق على النفط في أيام تألقه، مما يشير إلى التغيرات الجارية في أسواق السلع العالمية، علما بأن أسعار القهوة مرشحة للارتفاع بنسبة 90 بالمئة إلى أكثر من 6 دولارات للرطل بعد أقل من عامين أي في عام 2014. أما المبررات المطروحة، فإنها تتمحور حول زيادة استهلاك كل من الصين والهند بعد ارتفاع معدلات النمو هناك وتحسن مستويات المعيشة، مما أدى إلى تنازلهم عن مشروبهم التقليدي الشاي والانتقال إلى شرب القهوة الأكثر رقيا من وجهة نظر الكثيرين هناك، باعتبار الشاي مشروب الفقراء عندهم. أما في منطقة الشرق الأوسط، فإن دولة الإمارات وبحكم مركزها التجاري المرموق في المنطقة، فقد تحولت إلى خامس أكبر مستورد ومستهلك للقهوة في العالم، متجاوزة في ذلك بلدانا ذات كثافة سكانية كبيرة. وبين القمح والذهب الأسود "القهوة" والذهب الأصفر والنفط يتنقل المضاربون في الأسواق الدولية محققين أرباحا خيالية ومتسببين في أزمات، بعضها مفتعل بفضل توازن العرض والطلب في الأسواق، إلا أن احتكار بعض السلع أو تخزينها المؤقت يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وإلى دفع مبالغ مضاعفة مقابل استيرادها. وتشكل مسألة سيطرة القطاع المالي المغامر على تجارة السلع تحديا خطيرا لمختلف بلدان العالم، وبالأخص للبلدان التي تعتمد بصورة كبيرة على وارداتها من الغذاء لسد احتياجاتها من المواد الغذائية الرئيسية. لذلك، فقد أصبح من المهم اتخاذ خطوات عملية من قبل هذه البلدان لضمان أمن الغذاء والذي يشكل أهمية قصوى لكافة بلدان العالم، من هنا تأتي أهمية القرار الذي اتخذته مؤخرا الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي والقاضي بإنشاء نظام لتخزين احتياطيات من الحبوب لمنطقة الخليج العربي في الفجيرة تغطي استهلاك دول المجلس لمدة تتراوح ما بين 3 – 6 أشهر، وهو مشابهه لاحتياطيات النفط الغربية المحددة بستة أشهر. وحسنا فعلت الهيئة باختيار ميناء الفجيرة الواقع على خليج عمان والمحيط الهندي لإقامة هذه المخازن، فهذا الموقع الإستراتيجي يقع خارج مضيق هرمز المهدد بالمخاطر بشكل دائم، مما يجنب عملية الاستيراد تحديات عديدة ويضمن لدول المجلس إمدادات من الغذاء في ظل مختلف الظروف الأمنية المحيطة بالمنطقة. واستكمالا لهذا المشروع، فإن الهيئة تدرس تأسيس شركة للاستثمار الزراعي برأسمال 60 مليون دولار بالتعاون مع مستثمرين خليجيين لشراء وزراعة أراض في مصر والسودان وكازاخستان، وذلك لتوفير إمدادات مضمونة ومتكاملة مع مشروع المخازن في الفجيرة. وإضافة إلى ذلك، فإن لدى الهيئة توجها آخر مهما يتعلق بدعوة القطاع الخاص الخليجي للاستثمار في هذا المشروع، وذلك رغم أن الهيئة أسستها حكومات عربية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، مما يعني إفساح المجال أمام القطاع الخاص الخليجي الذي يملك قدرات مالية كبيرة للمساهمة في التنمية وفي ضمان الأمن الغذائي في دول المجلس. ويشكل ذلك إحدى أهم التوجهات الرامية إلى مواجهة تذبذبات الأسعار واحتكارها من قبل المجمع المالي العالمي، إلا أن مثل هذا التوجه بحاجة لإجراءات إضافية ودعم لزيادة فعاليته واستقلاله ليتمكن من المساهمة في حل إحدى المعضلات المتوقع مواجهتها في المستقبل بسبب المضاربات والتلاعب بأسعار السلع، بما فيها السلع الغذائية في الأسواق الدولية.