10 نوفمبر 2025
تسجيلدروس كثيرة تلك الناجمة عن أزمة الاتحاد الأوروبي وعملته الموحدة "اليورو" والتي ستضع أسسا جديدة ليس لاتحاد أوروبي أقوى وأكثر تماسكا، وإنما للاتحادات والتكتلات الاقتصادية الأخرى في العالم، وبالأخص لمجلس التعاون الساعي إلى تحويل شكل التعاون الحالي إلى اتحاد خليجي. ويكمن أحد أهم هذه الدروس في عدم إمكانية إقامة اتحاد نقدي وعملة موحدة دون وحدة مالية، حيث سيدرس القادة الأوروبيون في قمتهم القادمة والمزمع انعقادها يومي 28 و29 يونيو الجاري وضع خارطة طريق لوحدة مالية أوروبية. ويبدو أن هذه القناعة تولدت بعد تجربة مؤلمة ليس لدى الحكومات الغربية فحسب، وإنما لدى الشعوب الأوروبية أيضا، حيث صوت الشعب الأيرلندي وبنسبة مريحة بلغت %60 مع الالتزام بالضوابط المالية التي أقرها الاتحاد الأوروبي والتي تعتبر بداية لوحدة مالية أوروبية. والحال، فإن الربط بين الوحدة المالية والنقدية أمر منطقي للغاية، إذ لا يمكن فصل هذين الجانبين بأي شكل من الأشكال، سواء على مستوى كل بلد على حدة أو على المستوى الاتحادي، فالتطورات النقدية تؤثر بصورة مباشرة في القضايا المالية، كما أن السياسية المالية تنعكس إيجابا أو سلبا على أسعار الصرف وعلى التجارة الخارجية. وفي الوقت نفسه يؤثر الاثنان في معدلات النمو والتضخم، وبالتالي في مستويات المعيشة، إذ بينت التجربة الأوروبية أن أي فصل بين السياستين المالية والنقدية سيترتب عليه نتائج سلبية على الأوضاع الاقتصادية والمالية، إذ بسبب هذا الفصل في الاتحاد الأوروبي تم التغاضي عن تجاوزات مالية خطيرة، فالعجز في الموازنة السنوية في بعض البلدان، كاليونان وإسبانيا وإيطاليا بلغ أرقاما قياسية تجاوزت 12% أي أربعة أضعاف ما تم الاتفاق عليه في منطقة اليورو والمقدر بـ 3%. أما نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، فقد بلغ أرقاما قياسية ليتجاوز 114% في حين اتفق في نطاق مجموعة اليورو ألا يتجاوز ذلك %60، ناهيك عن التفاوتات الكبيرة في معدلات التضخم والأجور. والنتيجة الرئيسية التي تم التوصل إليها بعد عشر سنوات من إطلاق العملة الأوروبية الموحدة، هي أنه لا يمكن الاستمرار في العمل بهذه العملة دون سياسة مالية موحدة تلتزم بها كافة البلدان الأعضاء في الاتحاد النقدي، حيث تقف منطقة اليورو أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما توحيد السياسات المالية أو انهيار العملة الأوروبية الموحدة، إذ يبدو أن هناك توجها قويا على كافة المستويات لتوحيد هذه السياسات وإنقاذ اليورو، حتى ولو أدى ذلك إلى خروج بعض البلدان من منطقة اليورو، كاليونان على سبيل المثال. وبما أن دول مجلس التعاون الخليجي أطلقت مشروع عملتها الموحدة بصورة أولية أعقبها الحديث عن محاولات الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، فإن التجربة الأوروبية الغنية يمكن أن تقدم لها خدمة كبيرة لتلافي تكرار الهفوات التي حدثت هناك واستخلاص الدروس التي أفرزتها تجربة الاتحاد الأوروبي. وأول هذه الدروس يكمن في ضرورة تزامن إطلاق العملة الخليجية الموحدة مع توحيد السياسات المالية والالتزام بالضوابط المالية التي يتم الاتفاق عليها، وبالأخص تلك المتعلقة بالعجز في الموازنات السنوية ونسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي والتحكم في نسب التضخم وتقريب مستويات سياسات الأجور. ومع أن البيانات للسنوات العشر الماضية تبين أن هذه النسب والمعدلات قريبة بصورة شديدة بين دول المجلس، حيث حققت موازناتها فائضا على مدى السنوات الماضية، كما أن نسب الدين لديها جميعا لم تتجاوز %60 مما يعني أنها لا تعاني من المشاكل المالية التي مرت بها بلدان الاتحاد الأوروبي والمتمثلة في تفاوت سياساتها المالية بصورة كبيرة. وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة مهمة للغاية، وهي أن الأوضاع المالية في دول المجلس ما زالت رهن تطورات أسعار النفط في الأسواق الدولية، ففي حالة الأسعار المرتفعة، كما هو الحال في الوقت الحاضر، فإن السياسات المالية لدول المجلس متناسقة إلى حد بعيد، إلا أن الانخفاض الشديد لأسعار النفط، كما حدث في عامي 1986 و1998 أوجد تفاوتا كبيرا بين هذه السياسات في المجموعة الخليجية. وبما أن أسعار النفط متقلبة باستمرار، كما أنها عرضت للتقلبات السياسية والأمنية في العديد من مناطق الإنتاج في العالم، وبالأخص في منطقة الخليج العربي، فإن على المجموعة الخليجية أن تأخذ بعين الاعتبار كافة الاحتمالات عند سيرها الحثيث نحو إطلاق عملتها الموحدة والتي يأتي في مقدمتها تزامن عملية الإطلاق مع توحيد السياسات المالية، وذلك في سبيل ضمان نجاح التجربة الخليجية والتي سيكون لها انعكاسات إيجابية كبيرة على النمو وتحسين مستويات المعيشة في دول مجلس التعاون الخليجي.