04 نوفمبر 2025
تسجيلعندما يطيب الثمر فوق الشجر فإن من الحمق ألا ينتفع به..وتخيل معي شخصا لديه شجرة تفاح تعب في زرعها ورعايتها فلما حان قطف ثمرها تركه فوق الشجرة حتى مر عليه وقت فعطب وضمر وسقط من غير انتفاع به ولئن كان هذا -في أمر الثمار - حماقة فهو في حال البشر أكبر وربما نعده خيانة فالإنسان السوي يحب أبناءه ويحدب عليهم ويشفق من أن يصيبهم ما يؤذيهم أو يكدر صفو هنائهم..ويستوي في ذلك لديه البنين والبنات..وربما وجدت شفقة بعض الآباء على البنات أكثر وهذا شائع معروف حيث يستشعر ضعفها فتتحرك عاطفة الأبوة أو نخوة الأخوة - أيضا- لتثمر هذه العلاقة السامية من العناية بشأنها وحمايتها من كل ما يؤذيها فما الذي يدفع بعد ذلك بعض الآباء إلى تجاهل حاجات تلك التي يشفق عليها ويهتم برعايتها في كافة شؤونها ومن ذلك السعي الحثيث ليزوجها؟ المثل الذي ضربته - في الثمر - أقصد به إهمال الرجل قيم المرأة المسؤول عن شأنها والعناية بها من أن يزوجها إذا بلغت سن الزواج وأن يسعى لهذا بقدر جهده ليقطف هو ثمرة تربيته لها أجرا وثوابا وسعادة وراحة ضمير حيث ساهم بأن تسعد بحياتها الخاصة وبزوج وأبناء وليستفيد المجتمع بل والأمة كلها من تلك القوة النفسية الهائلة والحنان التلقائي الطبيعي الذي جبلت عليه النساء لتنتج له أبناء بررة وتساهم في الاستقرار النفسي للشباب. أي إهمال بل وأي خيانة للمرأة أن تترك في البيت ولا يحاول الآباء والإخوة أن يدركوا ما تعانيه من الوحدة بدون زواج ..وتمر السنوات تطوي النضارة وتذوي الشباب ويذبل بريقه وتظل الثمار فوق الشجر تنتظر راعيها ليقطفها وينتفع بها فأي تعطيل لطاقتها الخلاقة في التربية وأي إهمال لحاجاتها النفسية والبدنية بتنحيتها من تلك الحياة التي تجد فيها راحة النفس وسكون الشهوة وطيب العشرة؟ وتظل المسكينة تعاني من ألم هذا التجاهل والترفع عن إيجاد حل بدعوى البحث عن الأكفاء وانتظار أبناء العم الذين ربما تنفر منهم الفتاة أو يكون بينهما البون شاسعا في الاهتمام والتفكير ومستوى الثقافة. أعرف امرأة سعت بعض أخواتها لتزويجها بعد بلوغها الأربعين حتى وفقت لرجل صالح فشكرت لأختها صنيعها وعلقت بكلمة أتمنى أن يتأمل فيها كل عاقل من الأولياء قالت: ألم يكن أولى بأبي وإخواني أن يسعوا لتزويجي من أكثر من عشرين سنة. وكأنها تشير بهذا اللوم إلى حجم المعاناة التي مرت بها في صمت وحياء من غير أن تفصح عن مكنون حسرتها وعظيم ألمها..فيمنعها الحياء من بث تلك الهموم لغيرها أو توصيلها لأوليائها. إن للفتاة حاجات كبرى من الزواج..إنها لرقة قلبها وحساسية نفسها تميل لزوجها بل وليس لغيره من الناس نفس تلك المكانة ..هكذا جبلت وتلك طبيعتها. لذا كان تفهم السلف الصالح لهذه الفطرة وانظر إلى هذا الموقف: عن ابن جريج قال : أخبرني من أصدق أن عمر وهو يطوف سمع امرأة وهي تقول: تطاول هذا الليل واخضل جانبه وأرقني إذ لا خليــــــــل ألاعبـــــه فلولا حذار الله لا شــــــيء مثــــــله لزعزع من هذا السرير جوانبه فقال عمر فما لك؟ قالت أغربت زوجي منذ أربعة أشهر وقد اشتقت إليه فقال أردت سوءا؟ قالت معاذ الله قال فاملكي على نفسك فإنما هو البريد إليه فبعث إلي.. ثم دخل على حفصة فقال إني سائلك عن أمر قد أهمني فأفرجيه عني كم تشتاق المرأة إلى زوجها فخفضت رأسها فاستحيت فقال : فإن لله لا يستحيي من الحق فأشارت ثلاثة أشهر وإلا فأربعة فكتب عمر ألا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر [1] ) لم يقل لها عمر اصبري ..ولم يلقي بلائمة عليها - إذ اشتكت - بل قدر حاجتها وسعى في حل مشكلتها ..فهلا اقتدينا بذلك. لذا كان السلف الصالح يحرصون على تزويج بناتهم بل ويعرضونهن على من يرونه كفئا لهن في الدين والتدين ..هل رأيت مثل عمر قوة وبأسا وعزة ..ومع ذلك لم يمنعه هذا من أن يعر ض حفصة إذ تأيمت ومات زوجها - على أبي بكر وعلى عثمان ، ليضمن لابنته الاستقرار في كنف زوج صالح ..وتأمل بأن بني عدي فخذ عمر من قريش- يرون أنفسهم أعز نسبا من بني تيم فخذ أبي بكر .وقل مثل ذلك في تزويج علي ابنته أم كلثوم رضي الله عنهما لعمر رضي الله عنه .فكل هذا التحرز والبحث عن القريب وكفاءة الأسرة لم يكن معتبرا لديهم ..وكان السبق في الدين هو أصل ما يبنون عليه العلاقة الزوجية ..صحيح أنه كانت هناك اعتبارات أخرى من القدرة على النفقة ومن تفضيل صاحب النسب إن تساوى في الدين مع غيره ومن القبول الشخصي والرضا المتبادل ..لكن بقي الأصل الذي نحتاج جميعا إلى التأمل فيه وهو ما رواه أبي هريرة (قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وها نحن نشهد بأعيننا كم تعاني مجتمعاتنا العربية والإسلامية والخليجية -على وجه أخص -من تلك المشكلة ..مشكلة العنوسة التي يتسبب فيها الآباء ورجال الأسرة لبناتهم. إن نسب تلك النسوة العوانس في مجتمعاتنا قد تصل إلى نصف الفتيات وقد تزيد ونحن وإن كنا نرى أسبابا عدة لهذه المشكلة لكن أكبرها هو هذا المنع أو العضل وهو ما خصصنا له هذه الأسطر. لقد نهى القرآن الكريم عن هذا العضل في قوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف" ووجه الدلالة في الآية أن اللّه تعالى يخاطب أولياء النساء فينهاهم عن منعهن من الزواج بمن يرضينه لأنفسهن زوجاً، فلو لم يكن لهؤلاء الأولياء حق المنع لما كان لخطابهم بمثل هذا وجه لأنه كان يكفي أن يقول للنساء: إذا منعتن من الزواج فزوجوا أنفسكن لكن تلك الولاية يقابلها في الطرف الآخر المسؤولية فتضييع ذلك حرام وللحديث بقية [email protected]