16 سبتمبر 2025

تسجيل

تلك اللحظة النادرة

30 يناير 2016

حين تصبح ثورة ٢٥ يناير موضوعا خلافيا في مصر، فذلك يعنى أن ثمة خللا فادحا في الإدراك وتغليطا جسيما في قراءة التاريخ وازدراء مدهشا لحركة الجماهير وانتفاضة المجتمع. ذلك لأنني لا أعرف في التاريخ المصري المعاصر ثورة بعمق وشمول ذلك الحدث الكبير الذي وقع في عام ٢٠١١. حتى أزعم أن ما جرى آنذاك بمثابة لحظة نادرة يصعب تكرارها في الأجل المنظور على الأقل. لذلك فإنني لم استسغ الذعر الذي انتاب أجهزة السلطة المصرية حين حلت الذكرى الخامسة للثورة ولا التعبئة الإعلامية الكبيرة التي استهدفت التحذير من التظاهر في ذلك اليوم. ولا تلك التي وصفت الداعين إلى التظاهر بالمروق والخيانة. أما الذي لم أفهمه وتعجبت له كثيرا أن ترتفع بعض الأصوات التي سعت إلى الطعن في ثورة يناير. وتصويرها باعتبارها فعلا سياسيا فاضحا ومؤامرة كونية استهدفت إسقاط الدولة المصرية. ولم يدرك أصحاب تلك الأصوات أنهم بذلك يلطخون ويهينون أنصع صفحات التاريخ المصري وأجمل وأنبل إبداعات الشعب المصري.كنت خارج مصر حين حلت الذكرى الخامسة في ٢٥ يناير. وراعتني أصداء الإهانات والبذاءات التي صدرت بحق الثورة من جانب بعض الأصوات، وهو ما عبرت عنه عدة كتابات وبثته بعض البرامج التلفزيونية. الأمر الذي أشاع حالة من الانكسار في أوساط المصريين المغتربين، والبلبلة عند غير المصريين، والشماتة في محيط الكارهين والمتربصين. وحين كنت ألمس تلك الانطباعات وراء ما وجه إلى من أسئلة فإنني لم أملّ من التأكيد على أن الإعلام المصري الراهن هو أسوأ تعبير عن المجتمع المصري. أما حجتي فقد كنت أسوقها على النحو التالي:خلال القرنين الأخيرين شهدت مصر خمس ثورات. الأولى قادها محمد على باشا في عام ١٨٠٣ واستثمر فيها ثورة المصريين ضد المماليك بحيث حقق طموحه في الولاية بمساندة جنوده الألبان، ونجح في طرد الوالي العثماني، ثم قام بحملته الإصلاحية بعد ذلك. الثانية كانت بعد ذلك بثمانين عاما حين قاد أحمد عرابي باشا الثورة ضد هيمنة الشراكسة وسلطان الخديوي توفيق. لكن جهوده أُحبطت بالاحتلال الانجليزي لمصر عام ١٨٨٢، ونفي عرابي إلى خارج البلاد. الثالثة كانت ثورة ١٩١٩ التي كانت ضد الاحتلال البريطاني وقادها سعد باشا زغلول. وكان غضب الشعب قد انفجر بعد نفي سعد باشا ورفاقه وترددت أصداء الغضب في مختلف أنحاء القطر المصري على نحو فاجأ الانجليز، فأطلقوا سراح سعد باشا وفاوض الانجليز بعد ذلك على إنهاء الانتداب وإجراء بعد الإصلاحات في الداخل. الثورة الرابعة قادها الضباط الأحرار في عام ١٩٥٢، الأمر الذي انتهى بتنازل الملك فاروق عن العرش وتحول مصر من ملكية إلى جمهورية. أما الثورة الخامسة فكانت تلك التي انتفض فيها الشعب المصري في ٢٥ يناير عام ٢٠١١. وهذه جاءت فريدة في بابها على نحو لم يعرفه التاريخ المصري المعاصر ـ لماذا؟ردي أنها الثورة الوحيدة التي قام بها الشعب بكامله وبكل فئاته وأطيافه دون استثناء. فلا دعا إليها زعيم أو حزب أو قوة من أي نوع. وإنما دعت إليها مجموعات الشباب الوطنيين العاديين. وإذا كنا قد عرفنا دور محمد علي باشا في انتفاضة بداية القرن ثم دور عرابي باشا وبعده سعد زغلول باشا ثم دور مجلس قيادة الثورة وقيادته التي نصب لها اللواء محمد نجيب ثم آلت القيادة إلى جمال عبد الناصر. فإن أحدا لا يستطيع أن ينسب ثورة ٢٥ يناير إلى أي زعامة أو حتى مشروع سياسي. وإنما غاية ما يمكن أن يقال إن الشعب هو الذي تظاهرت جموعه داعية إلى إسقاط النظام وأنه هو الذي أسقطه وهو الذي استدعى القوات المسلحة التي فرضت على حسني مبارك تنازله عن السلطة.وإذا كانت هناك مقارنة، فربما كانت ثورة ١٩١٩ هي الأقرب إلى ثورة يناير، ولها منجزاتها التي ظهرت للعيان بأكثر مما ظهر في أعقاب ثورة يناير. فالتشابه قائم بين الثورتين في حجم الالتفاف الشعبي واسع النطاق الذي اقترن بذوبان الجميع في بوتقة الثورة. لكن ثورة ١٩ أفضت إلى إلغاء الحماية البريطانية وإلغاء الأحكام العرفية وإصدار دستور ١٩٢٣ الذي أعقبه إجراء أول انتخابات نزيهة فاز فيها حزب الوفد ورأسها سعد باشا. ومن التداعيات المهمة لثورة ١٩ أن سعد باشا حين أرسى الأساس لتنظيم حزب الوفد فإنه أقام ظهيرا شعبيا تبنى مشروعه. كما أنها أدت إلى استدعاء المجتمع الذي أصبح قوة ثالثة لها يعمل لها حساب. الأمر الذي غير لمعادلة التي تحدث عنها أحمد لطفي السيد باشا حين قال في بداية القرن إن في مصر قوة شرعية ممثلة في الخديوي وأخرى فعلية تمثلت في الاحتلال البريطاني. وبعد ثورة ١٩ برز المجتمع كقوة ثالثة أثبتت حضورها في الساحة.تمنيت في مناسبة الذكرى الخامسة أن يجرى حوار جاد حول النجاحات والإخفاقات، لكن ذلك لم يتحقق للأسف، بحيث لم نعرف مثلا ما الذي حدث منذ رفعت في عام ٢٠١١ شعارات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم أصبحت النداءات في عام ٢٠١٦ تطالب بوقف الاختفاء القسري وإدخال البطاطين والأدوية إلى سجن العقرب ـ وذلك سؤال أحاول الإجابة عليه في حديث آخر.