16 سبتمبر 2025
تسجيلحين يطغى الصراع داخل البيت الفلسطيني على الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، فإننا نصبح إزاء منعطف خطر يهدد مصير «القضية».(١)المنطوق أعلاه من وحي الأجواء المحيطة بمؤتمر فتح السابع الذي يعقد اليوم في رام الله، وسيل التوقعات والتكهنات التي تناولته في الساحة الفلسطينية طوال الأسابيع الماضية. ذلك أن تلك التعليقات أجمعت على أن الصراع الداخلي سيكون المهيمن على جدول أعمال المؤتمر، وأن البند الأول (غير المعلن) هو تعزيز سلطة الرئيس محمود عباس، من خلال تطهير الحركة من المناوئين الذين يوصفون بأنهم «مجنحون». وفي الوقت نفسه، ترتيب أمر خلافته بعد ما بلغ من العمر ٨١ عاما، فضلا عن أن مدة ولايته انتهت كما انتهى أجل التمديد الذي قرره له مجلس الجامعة العربية بعد ذلك. في هذا الإطار ثمة عناوين كثيرة قد لا تخلو من مفاجآت، منها ما يتعلق باحتمالات اختيار القيادي الأسير مروان البرغوثي نائبا للرئيس، والاتجاه إلى تصعيد أناس لعضوية اللجنة المركزية للحركة وآخرين للمجلس الثوري. ذلك فضلا عن حسم الموقف إزاء القيادي المفصول محمد دحلان الذي دخل في صدام معلن مع أبومازن تبادل فيه الطرفان العديد من الاتهامات الجارحة. إلى غير ذلك من إجراءات وخطوات توزيع المقاعد وتصفية الحسابات التي اتخذت خلال الآونة الأخيرة وكان محورها إقصاء معارضي أبومازن ونقاده، من المسؤولين في السلطة والقيادين البارزين في الحركة.الشاهد أن المؤتمر حين ينشغل بهذه الأمور الداخلية ويقدمها على التحديات المتنامية التي تواجه القضية ــ خصوصا في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة ــ فإنه يكاد يستنسخ الحالة العربية التي خيم عليها الانكفاء على الداخل مما أدى إلى تراجع أولوية القضية الفلسطينية في أغلب الأقطار. وهو ما يجسد المنعطف الخطر الذي أشرت إليه، إذ في ظله باتت السلطة مشغولة بتصفية حساباتها مثل ما صارت الدول العربية مشغولة بمشكلاتها.(٢)فى الفضاء الفلسطيني مبادرة مهمة لتصويب المسار واستدعاء القضية إلى الواجهة، أطلقها أخيرا الدكتور رمضان عبد الله الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في برنامج من عشر نقاط. إلا أننا وجدنا أن أجواء مؤتمر فتح مهجوسة بالصراع الداخلي حول الأشخاص وليس حول السياسات أو البرامج. ذلك أن المتصارعين داخل الحركة الأم ليسوا مختلفين حول ركائز السياسة المتبعة، بدءا من الالتزام باتفاقيات أوسلو وانتهاء بالتنسيق الأمني، مرورا بمختلف العناوين التي تفرغ حركة التحرير من مضمونها، وتحول «فتح» إلى حزب متشبث بالسلطة وحريص على الاستئثار بها بأي ثمن.في رأي الباحث والناشط الفلسطيني عبد القادر ياسين أن حركة فتح كانت بمثابة جبهة جذبت المناضلين الفلسطينيين بمختلف اتجاهاتهم في وجود القياديين أبوجهاد وأبوإياد إلى جانب ياسر عرفات. وبعد اغتيال الرجلين ضاقت الدائرة نسبيا وأصبح أبوعمار زعيما للتنظيم، والقائد الذي حرص على احتواء الجميع بمن فيهم مخالفوه. وبعد اختفاء الزعيم وتولى أبومازن قيادة الحركة انفرط عقد فتح وصارت «فتحات» متعددة وليس تنظيما واحدا قائدا. وعلى العكس من أبوعمار فإن أبومازن لجأ إلى التخلص من مخالفيه وليس إلى احتوائهم الأمر الذي سحب الكثير من وزن الحركة ودورها وأدى إلى إضعاف أبومازن كثيرا، حتى خشي من إجراء الانتخابات البلدية وكان قضاؤه وراء تأجيلها. وفي ضعفه فإنه صار يعول كثيرا على دور الأجهزة الأمنية الأمر الذي حولها إلى أجهزة تقمع المخالفين والمقاومين إلى جانب تنسيقها مع الإسرائيليين (أعلن أبومازن أن أجهزته أحبطت ٢٠٠ عملية ضد الاحتلال كما أنها قامت بتفتيش حقائب التلاميذ الغاضبين وصادرت من بعضهم سكاكين كانوا يحملونها). وإلى جانب ذلك فإنه حول المناضلين إلى موظفين، حين وزعهم على مواقع السلطة واستمالتهم بالرواتب والميزات (القيادي الراحل هاني الحسيني ذكر أن ٨٥٪ من موظفي السلطة هم من مناضلي فتح السابقين).(٣)الموقف العربي إزاء ما يجري في الساحة الفلسطينية بدا محيرا. إذ في حين تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية في أغلب الأقطار العربية، وهبت رياح التطبيع على بعض العواصم، وعلت أصوات تحدثت عن محور للاعتدال تشارك فيه إسرائيل بل وقرأنا لمن دعا صراحة إلى التحالف معها بزعم أنها «تغيرت»، في هذه الأجواء لمسنا حضورا عربيا لافتا للانتباه. تمثل ذلك الحضور في ظهور ما سمى بالرباعية العربية (مصر والأردن والسعودية والإمارات العربية) وهي الدول التي صنفت في السابق ضمن محور الاعتدال العربي. هذه المجموعة بدأت تتحرك خارج الجامعة العربية وبمعزل عن السلطة الفلسطينية. وتسربت أنباء عن مشروع أو أفكار قدمتها الرباعية لأبومازن بخصوص ترتيب البيت الفلسطيني الذي قصد به رأب التصدعات التي أصابت حركة فتح، وفي المقدمة منها ما تعلق بفصل بعض القيادات، وعلى رأسهم السيد محمد دحلان.لم تكن تلك هي الملاحظة الوحيدة لأن الانقسام بين حركتي فتح وحماس، الذي هو الأعمق والأخطر في الساحة الفلسطينية وقع منذ عشر سنوات، دون أن يُبذَل جهد عربي حقيقي لاحتوائه بما يعيد الوفاق والوئام إلى الساحة الفلسطينية، صحيح أن اجتماعات عربية عقدت لأجل ذلك. أسفرت عن اتفاقات أبرمت، إلا أننا لم نلمس ضغوطا عربية جادة لإنهاء الانقسام، بل تسربت شائعات كثيرة بخصوص إدامته وتكريسه.جهد الرباعية العربية لم يرحب به أبومازن، واعتبره «تدخلا فجا» في الشأن الفلسطيني الداخلي. رغم أن التمديد له في رئاسة السلطة بعد انتهاء مدة ولايته تم بواسطة الجامعة العربية،(٤)المعلن في الوقت الراهن أن ثمة دعوة مصرية لاستضافة حوار فلسطيني جديد تدعى إليه مختلف الفصائل، الهدف منه توحيد الصف وتعزيز الشراكة الوطنية وترتيب الشروع في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. وهذه الدعوة سبقتها خطوات موحية بالانفراج تمثلت فيما يلي: استقبال مصر لوفد من غزة ضم عددا من الشخصيات المستقلة مع آخرين من أنصار محمد دحلان وعقد هؤلاء مؤتمرا في «العين السخنة» تركز حول «الإصلاح» المطلوب في الساحة الفلسطينية ــ استقبلت مصر أيضا وفدا آخر من رجال الأعمال والاقتصاديين في غزة لتنشيط العلاقة مع مصر. فيما عرف بمؤتمر «عين السخنة ٢» ــ لاحقا استقبلت مصر وفدا إعلاميا فلسطينيا ضم ٣٠ شخصا قاموا بزيارة المؤسسات الإعلامية المصرية، لتوثيق العلاقات في ذلك المجال ــ بعد ذلك وجهت مصر الدعوة إلى قيادة حركة الجهاد الإسلامي التي شكلت وفدا برئاسة الأمين العام، عقد عدة اجتماعات مع مسؤولي الحلف الفلسطيني في المخابرات العامة، خرج منها الوفد بانطباعات إيجابية ــ بالتوازي مع كل ذلك فإن مصر خففت من إجراءات حصار غزة بما أوحى باحتمال التدرج في فتح معبر رفح.هذه التحركات كلها أعطت انطباعا قويا بأن ثمة تحسنا في علاقة القاهرة بالقطاع من ناحية، كما أنها جاءت إعلانا عن قيادة الوفد المصري لمهمة الرباعية العربية. كما أنها كانت بمثابة إعلان عن مضى القاهرة ومعها الرباعية في رعاية ما سمى بتيار «الإصلاح» الفلسطيني المناوئ لأبومازن، وهو الذي بات يضم أنصار دحلان بالدرجة الأولى إضافة إلى عدد من المستقلين والمفصولين الذين أقصاهم أبومازن لسبب أو آخر.الملاحظة الأخرى المهمة أن حركة حماس التي تدير القطاع في غزة لم تستثن من الدعوة في المؤتمر العام المزمع عقده في القاهرة لمختلف الفصائل، وفيما فهمت فإن عقدة علاقتها التاريخية مع جماعة الإخوان لاتزال محل بحث. وذلك ملف أكثر حساسية مما يثار حول علاقة حماس بما يجرى في سيناء، الذي كان فيه من الضجيج الإعلامي بأكثر مما فيه من معطيات الواقع.ليس خافيا أن الكثير من الخطوات القادمة سوف تتأثر بنتائج مؤتمر فتح السابع الذي يخشى أن يجرى فيه إشهار الانقسام وتوجيه ضربة قاضية لأكبر الحركات الوطنية الفلسطينية، ولو أن الأمر وقف عند ذلك الحد لهان ولأمكن احتماله، لأن التداعيات المترتبة على ذلك تفتح الأبواب واسعة لشرور كثيرة تهدد مسار ومصير القضية، ذلك أن خلفيات تلك التحركات ومراميها ليست معلومة بعد، فضلا عن أن سجلات الأطراف التي تدير المشهد لا تطمئن كثيرا. ومجرد ارتياح إسرائيل وسعادتها بما يجرى لابد أن يرفع لدينا منسوب القلق ومؤشراته. وهي محقة في الاطمئنان والبهجة، لأن الموقف من الاحتلال ظل العنوان الغائب في تلك الصراعات والتجاذبات حتى الآن.