16 سبتمبر 2025

تسجيل

مصر تستحق الأفضل

28 سبتمبر 2015

لم أستطع أن أقاوم سوء الظن حين لاحظت أن بعض الصحف المصرية أبرزت خبر اتجاه بريطانيا لتقييد حق الإضراب، وكلمة "اتجاه" إضافة من عندي، لأن الصحف التي أعنيها أعطت في عناوينها انطباعا بأن ذلك حدث فعلا، في حين أن قارئ الخبر يكتشف أن المشروع الذي قدمه حزب المحافظين مر في القراءة الثانية له في مجلس العموم، وتنتظره قراءة ثالثة قبل إحالته إلى مجلس اللوردات لاعتماده بصورة رسمية. ورغم أن خطوة من ذلك القبيل حين تحدث في بريطانيا فإنها تصبح خبرا يستحق الإبراز من الناحية المهنية، إلا أن تجربتنا مع الصحف المصرية نبهتنا إلى أن الدور السياسي أصبح مقدما على الدور المهني. لذلك فإنني شممت في إبراز الخبر على الصفحات الأولى رائحة التوظيف السياسي. إذ قرأته باعتباره رسالة تحاول أن تفحم الرافضين لقانون التظاهر الذي أثار الغضب في مصر، بدعوى أن تقييد حق التظاهر ليس بدعة، ولكنه معمول به في أكبر وأعتى "العائلات" الديمقراطية في العالم. وهي الحجة التي عادة ما نستخدمها في تبرير وتمرير العديد من الإجراءات الاستثنائية التي اتخذت بدعوى مقاومة الإرهاب أو فرض الطوارئ، وهو سلوك يثير قضيتين جوهريتين، هما:* تجاهل الخرائط السياسية في الدول الديمقراطية التي نقارن بها، وإغفال السياق الذي تصدر فيه القوانين التي تحد من الحريات العامة. ذلك أنني حين قرأت خبر تقييد حق التظاهر في بريطانيا قلت: أعطونا واقعا سياسيا مثل الحاصل في بريطانيا، وأنا أبصم بالعشرة على إصدار قانون لتقييد التظاهر في الظروف الراهنة. وأقصد بالواقع السياسي قوة مؤسسات المجتمع ونفوذ المجالس المنتخبة وقدسية القانون واستقلال القضاء، وغير ذلك من الضمانات التي تكبح جماح السلطة وتخضع إجراءاتها للمحاسبة والرقابة، كما أنها تحول دون التلاعب بالقانون وتوظيفه لصالح أهواء السلطة وتدابير أجهزتها الأمنية.من ناحية أخرى فإن مثل تلك القوانين التي تحد من الحريات العامة تعد استثناء في المجتمعات الديمقراطية، في حين أنها باتت قاعدة في بلادنا، ثم إنها تصدر بضمانات معينة تحمي المتظاهرين كما تحمي النظام العام، ويكون لها أجل محدود، إلى جانب أن ممارسات السلطة طول الوقت تظل خاضعة للرقابة والمساءلة. تبرز المفارقة هنا أن قانون الإرهاب الذي صدر أخيرا في مصر نص في مادته الثامنة على عدم المساءلة الجنائية للشرطة إذا استخدمت القوة في أدائها لواجباتها إذا كان ذلك ضروريا. بالمقابل فإن محكمة بريطانية حكمت بالسجن ثمانية أشهر على شرطي أدين في ارتكابه "جريمة" دفع أحد المتظاهرين!.* القضية الثانية تتمثل في أننا لا نمارس الانتقاء في المقارنات فحسب، ولكننا أيضا نقارن دائما بالأسوأ، ناسين أن بلدا بأهمية مصر ورصيدها التاريخي يستحق أن يقارن بما هو جدير به ويتطلع إليه. في حين أنني أحذر من النهج الذي يوصل إلى الرأي العام ــ رسالة تدعو الناس بأن يحمدوا الله على ما هم فيه، لأن الآخرين لقوا مصيرا أسوأ وأتعس. وهو منطق قد يكون مفهوما في حالة التماثل في الظروف الاجتماعية والتاريخية، أما حين تختلف تلك الظروف اختلافا بينّا فإن المقارنة في هذه الحالة لا تخلو من افتعال وتغليط. أخص بالذكر هنا ظاهرة تكرار المقارنة بين مصر ودول أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا. فمصر لا تعرف الصراع القبلي أو المذهبي بين الشيعة والسنة، وحتى العنف فيها بلا تاريخ، لأن المزاج المجتمعي مختلف، فضلا عن أن الشعب غير مسلح أصلا، وكل العنف الذي ظهر على سطح المجتمع المصري أخيرا يشكل استثناء، ثم إن له سقفه وحدوده التي لا يتجاوزها. وما يجري في سيناء له خصوصيته المتعلقة بطبيعة المكان، وتركيبة المشاركين في العنف الحاصل هناك، سواء تعلق الأمر بالجهات التي قدموا منها أو الجنسيات التي ينتمون إليها.لست أدعي أن مصر محصنة ضد المصير الذي انتهت إليه أقطار أخرى التي يشار إليها. لكنني أكرر أن النموذج المصري مختلف، سواء في تركيبته الاجتماعية وخلفيته الثقافية، أو في خبرته وتجربته مع العنف الذي لم يبلغ يوما ما ما بلغه في تلك الدول الأخرى، وإذا كان لنا أن نعتبر من المآلات التي يجري التحذير منها، فإن ذلك يكون بانتهاج سياسات مغايرة تجنبنا الوصول إلى ما وصل إليه غيرنا، وهنا تبرز أهمية استدعاء النماذج الأفضل لتجنيب مصر النماذج الأسوأ.إن الاكتفاء في مصر بالتحذير من مآلات سوريا والعراق وليبيا وغيرها، هو دعوة للرضا بما هو حاصل. وتلك رسالة لا تخلو من خطورة. ذلك أننا إذا لم نغير من سياساتنا بحيث تتمثل النماذج الأفضل بما حققته على أصعدة الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان، فلا ندري إلى أين ستقودنا السياسات القائمة. ثم إن التغيير المنشود إلى الأفضل وحده هو الذي سيضمن لنا ألا ننتهي إلى ما انتهى إليه الذي نحذر منهم. بالتالي فإن السؤال الأهم الذي ينبغي أن ننشغل بالإجابة عنه هو: ما هي الحصانات التي تتوفر لنا لكي لا تصبح مصر غير سوريا والعراق وليبيا؟.