18 سبتمبر 2025
تسجيللأول مرة منذ خمسين يوما اختفت الجنازات من شوارع غزة وارتسمت على وجه القطاع ابتسامات الزهو والفرح، التي ترددت أصداؤها في الضفة وبين الفلسطينيين داخل إسرائيل.فرحوا لأنهم بصمودهم وبسالة شبابهم دحروا العدوان وكسروا كبرياءه، ونقلوا الخوف لأول مرة إلى داخل البيت الإسرائيلي حتى أربكوا قيادته وأحرجوا حكومته التى تدهورت شعبيتها بعدما طال أمد الحرب ولم تحقق شيئا من أهدافها. تجلى ذلك في نتائج الاستطلاع الذى أجرته القناة الثانية وبيَّن أن 80٪ من الإسرائيليين مستائون من أداء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في حين أن 90٪ منهم غير راضين عن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلن في القاهرة مساء الثلاثاء الماضي 26/8. ليس ذلك فحسب وإنما تتحدث التقارير الصحفية عن أن نصف أعضاء المجلس الوزاري المصغر الثمانية يعارضون الاتفاق، حيث كان السؤال الذى ردده الجميع هو: كيف أنه بعد 50 يوما من الحرب نضطر إلى القبول بواقع كنا نرفضه؟ في هذا الصدد ذكر المعلق السياسي للقناة الثانية امنون إبراموفيتش أن الحرب فتحت أعين الكثيرين على حقائق جديدة من بينها ما تثيره الأسئلة التالية: إذا كانت إسرائيل تهدد إيران حقا، فكيف كانت ستبدو لو أنها اضطرت لخوض حرب على جبهتي القطاع ولبنان فى ذات الوقت؟ ثم كيف سيتصرف نتنياهو ويعلون (وزير الدفاع) وهما أصحاب نظرية أن المسألة الفلسطينية غير قابلة للحل، بعد أن فشلت نظرية إدارة الصراع؟ وكيف اضطرت إسرائيل التي ترفع شعار عدم التفاوض تحت النيران إلى التفاوض على وقف النار تحت النار؟ وأليس الإنجاز الوحيد الذى حققه نتنياهو هو أنه استطاع أن يوقف حرب الاستنزاف التى استدرجته إليها المقاومة الفلسطينية بكفاءتها العسكرية وثباتها وإصرارها على عدم الرضوخ أو التراجع، حتى أنها ظلت تطلق صواريخها حتى قبل دقائق من سريان وقف إطلاق النيران؟صحيح أن كل سكان غزة عانوا من الجحيم الذي فرض عليهم، وجميعهم دون استثناء اشتركوا فى دفع الثمن من دمائهم وفلذات أكبادهم ودورهم التى تحولت إلى خرائب وقبور. لكن الضحايا احتفظوا بكبريائهم طوال الوقت ونسوا أحزانهم حين ذاع نبأ وقف القتال الذي فشل فى تركيعهم وإذلالهم. كانوا يعلمون أن المقاومة أوجعت إسرائيل وتحدت صلفها. فصواريخها طالت أهم المدن الإسرائيلية ومقاتلوها نجحوا في عمليات الإنزال خلف خطوط العدو من خلال الأنفاق تارة وعبر الكوماندوز البحري تارة أخرى فضلا عن الكمائن التى نصبوها ومكنتهم من الإيقاع بالمدرعات وسحب الجنود المذهولين من داخلها. وهو ما أدى إلى قتل أعداد من قوات النخبة الإسرائيلية تعادل أربعة أضعاف ما خسرته في حرب لبنان عام 2006.الصمود الذي عبر عنه المقاتلون على الجبهة كان له صداه فى المفاوضات التى جرت في القاهرة، التى تمت برعاية مصرية حقا، لكنها تجاوزت أفق المبادرة المصرية التى أعلنت فى 14 يوليو الماضي. ذلك أن المبادرة كانت تحركت فى حدود تفاهمات 2012 ولم تقدم شيئا يذكر إلى المقاومة. وإنما كبلتها فى بعض المواضع، إلى جانب لغة الحياد التى اتسمت بها، حيث تعاملت مع الطرفين على قدم المساواة، واعتبرت ما يصدر من كليهما «أعمالا عدائية» ضد الطرف الآخر، دون تفرقة بين المحتل القاتل، وبين صاحب الحق القتيل. فقد نصت مثلا على وقف «الأعمال العدائية» من جانب الفلسطينيين جوا وبحرا وبرا وتحت الأرض مع التأكيد على وقف إطلاق الصواريخ بمختلف أنواعها. وهو نص يكاد يشل حركة المقاومة ويمنعها من حفر الأنفاق التي كانت إحدى إبداعات المقاومة التى ظهرت فى الحرب الأخيرة. كما دعت المبادرة إلى فتح المعابر وتسهيل حركة عبور الأشخاص والبضائع «فى ضوء استقرار الأوضاع الأمنية على الأرض». ومقتضى هذا الشرط الأخير ألا تفتح المعابر على الإطلاق، لأن تقدير استقرار الأوضاع الأمنية متروك لإسرائيل، وبمقدورها أن تتعلل بعدم استقرار تلك الأوضاع طوال الوقت. ولم يكن الأمر مقصورا على ثغرات تخللت المبادرة، ولكن المراوغات الإسرائيلية لم تتوقف خلال المفاوضات، حيث ظل الإسرائيليون حريصين على ألا تحقق المقاومة أى إنجاز على أي صعيد. إلا أن إصرار الوفد الفلسطينى على مطالبه وتمسكه بالاقتراب قدر الإمكان من هدف فك الحصار وتحقيق الإعمار والتخفيف من معاناة وعذابات سكان القطاع، وفى الوقت ذاته استعداد فصائل المقاومة للاستمرار فى الحرب إلى أجل أطول لم تألفه إسرائيل، هذه العوامل كان لها دورها فى إخراج الاتفاق بالصورة التى أعلنت فى بيان وزير الخارجية المصرية مساء الثلاثاء. صحيح أن إسرائيل لم تستجب لكل ما طلبه الوفد الفلسطيني، لكن القدر الذى وافقت عليه أحدث نوعا من «الحلحلة» التى طورت المبادرة المصرية وعالجت عيوبها. ذلك أن الاتفاق تجاوز سقف تفاهمات 2012 ونص على الإعمار وفتح المعابر بغير شروط، وتمكين أهل غزة من الصيد فى حدود ستة أميال بحرية بدلا من ثلاثة. ولم تلتزم المقاومة إلا بوقف إطلاق النار. وكان الإنجاز الوحيد الذي حققه الإسرائيليون أنهم أوقفوا بدورهم القتال وتجنبوا استمرار الاستنزاف.من حق القطاع وأهله أن يستشعروا ثقة واعتزازا بما تم، لكن أتمنى ألا نبالغ فى الانتشاء بالنصر الذي أزعم أن ثمة شوطا طويلا ينبغى أن ينجز لتحقيقه على النحو المنشود، فضلا عن أن الإنجاز الذي تحقق من خلال الاتفاق لن يكتمل إلا بتنفيذ بنوده وتنزيلها على الأرض. وهو ما سيخضع للاختبار خلال الأيام والأسابيع المقبلة.