19 سبتمبر 2025

تسجيل

عن مديح الموالين وهجاء الآخرين

27 أبريل 2014

حين زار رئيس الوزراء المصري تشاد أخيرا كان عنوان صحيفة الصباح كالتالي: مصر تكسر العزلة الإفريقية. وحين قررت الإدارة الأمريكية تسليم دفعة طائرات الآباتشي إلى مصر تحدثت عناوين الصحف في اليوم التالي عن «تراجع» الولايات المتحدة وعن «مغازلة» واشنطن للقاهرة. وحين زار وزير الخارجية بيروت تحدثت صحفنا عن عودة مصر لأداء دورها العربي. وعندما توجهت عدة وفود «شعبية» أوفدتها مصر الرسمية إلى عدد من العواصم في أوروبا وآسيا تحدثت صحفنا عن النجاحات التي حققتها تلك الوفود في تحسين صورة مصر وتصحيح الانطباعات الخاطئة عن «ثورة» 30 يونيو. في هذا السياق، ليست بعيدة عن أذهاننا أصداء زيارة المشير عبد الفتاح السيسي لموسكو التي استغرقت عدة ساعات، لكن وسائل الإعلام المصرية اعتبرتها رسالة ناصرية و«صفعة» لواشنطن وتحدثت عن صفقة سلاح جديدة مع الروس، وعن اتجاه مصر إلى تنويع السلاح، وسعيها إلى إحداث توازن في علاقاتها الخارجية لمواجهة الضغوط الأمريكية وتحدي سياسة الرئيس أوباما. ولا أحد ينسى أن السفير الروسي في القاهرة حين سئل عن تلك الأصداء، فإنه رد قائلا إن تلك أمور تحدثت عنها الصحف المصرية. وكان ذلك بمثابة تعبير دبلوماسي أراد به الرجل أن يقول إن تلك ادعاءات ترددت في مصر ولا علاقة لموسكو بها، فيما اعتبر في حينه أنه تكذيب مهذب لما نشرته وروجت له وسائل الإعلام المصرية. ما سبق يرسم صورة للتطور الحاصل في وسائل الإعلام المصرية، التي باتت تقدم مفهوما جديدا للخبر والتحليل السياسي الذي صار يعتمد على النوايا والأمنيات وليس الحقائق والأفعال، إذ كما أن السفير الروسي في القاهرة ذكر أن ما نشر في مصر عن زيارة السيسي لموسكو هو من «إبداعات» إعلامها، فإن ذلك ينطبق أيضا على بقية «الأخبار» التي تصدرت عناوين الصحف المصرية. ذلك أن زيارة المهندس إبراهيم محلب لتشاد التي لا أشك في أن محاولة كسر عزلة مصر الإفريقية كانت من بين أهدافها، إلا أنها لم تغير شيئا في موقف الاتحاد الإفريقي، كما أنه لم يكن هناك أي تراجع في الموقف الأمريكي إزاء مصر، لأن ما حدث كان بمثابة تطور محسوب وليس تراجعا، فضلا عن أن زيارة السيد نبيل فهمي لبيروت لم تحقق أي تقدم يذكر في دور مصر الذي لا أحد يشعر به في العالم العربي. وهذه النتيجة تنطبق على زيارة الوفود الشعبية والسياحة السياسية التي قامت بها لعدة عواصم أوروبية. إن شئت فقل إن ذلك كله تم في إطار المساعي والتطلعات السياسية، التي تعاملنا بها إعلاميا على أنها حقائق وأخبار. كنا نعيب على الوزراء والحكومات في السابق أنهم دأبوا على تسويق إنجازاتهم الوهمية في مجالات الإنتاج والتعمير من خلال ما تنشره الصحف على ألسنتهم من مشروعات لا ترى النور، ولكنهم كانوا يواصلون الحديث عنها بهدف تحسين الصورة وإيهام الرأي العام بأن التقدم حاصل في تلك المجالات وأن البلد يعيش «أزهى عصوره» الآن نحن نفعل نفس الشيء في السياسة، حيث لا نكف عن إيهام الناس بتحقق أمور لا وجود لها على أرض الواقع، والنفخ في أي «حبَّة» سياسية لإقناعنا بأننا بصدد «قُبَّة» تجذب الانتباه وتحقق الإنجاز الذي نصبو إليه. الأسوأ من توظيف الإعلام في تلميع المسؤولين ومداهنتهم، أن يستهدف التوظيف تكريس الظلم واتهام الأبرياء. ذلك أنه إذا كان الغش والتدليس أمرا سيئا ومذموما، فإن إيقاع الظلم واستباحة كرامات الناس وحرماتهم أسوأ وأضل سبيلا، والاثنان حاصلان في مصر للأسف الشديد. إذ بموازاة الشواهد التي أشرت إليها توا، فإننا نجد تنافسا أشد في الإعلام على كيل الاتهام للمخالفين بما يؤدي إلى اغتيالهم سياسيا وأدبيا. فهم بين مشتبهين في انتمائهم إلى الطابور الخامس، أو منخرطين وضالعين في الخيانة والعمالة. وإذا كان تبادل الاتهام والتجاذب مع المخالفين أمرا مفهوما وبعضه مشروع ضمن حدود معينة، إلا أن أسوأ الاتهامات وأفدحها هي تلك التي يرمى بها أناس يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم والرد عليها، وذلك هو الحاصل مع آلاف البشر الذين تم اعتقالهم في مصر منذ شهر أغسطس الماضي (2013)، إذ تنافست الأبواق الإعلامية، بتوافق أو تنسيق مع المؤسسة الأمنية ــ على إطلاق سيل الاتهامات بحقهم التي لم تستهدف تجريمهم وشيطنتهم فحسب، ولكنها استهدفت أيضا تلويث تاريخ امتد إلى عشرات السنين السابقة. وذلك «جرم مهني لا ريب وسياسي بامتياز، فضلا عن أنه جرم أخلاقي أيضا. إذ ليس من المروءة أو الشهامة ــ لا تسأل عن الفروسية ــ أن تقاتل محبوسا أو تطعن مكبلا أو أن تسُب مكمما وممنوعا من الكلام. الثغرة الأساسية التي ينفذ منها ذلك العبث المهني السياسي والأخلاقي أنه في غيبة القيم الديمقراطية فإن الكلام يطلق بالمجان ولا أحد يحاسب عليه، خصوصا إذا كنا بصدد مديح أهل السلطة وهجاء معارضيها. ذلك أن كليهما مطلوب ومرغوب في الأجواء الراهنة، بالدرجة الأولى لأنه يميل مع هوى السلطة ويخدم سياساتها. ولئن كان ذلك مفهوما في الأجل القريب إلا أن خطره أكيد فيما عدا ذلك، لأنه عند الحد الأدنى يفقد الثقة في الخطاب الإعلامي والسياسي ويسحب من رصيد الثقة فيها، الأمر الذي يضم تجليات ذلك الخطاب إلى قائمة «كلام الجرايد». وهو المصطلح الذي يعبر عن خفة الكلام وانتسابه إلى الثرثرة والحكي الفارغ، وذلك مبرر كاف لإفقاده الصدقية والاحترام.