18 سبتمبر 2025
تسجيلالتصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء المصري الجديد ينبغي أن نستقبلها باعتبارها أمنيات وليست برنامجا أو أولويات للحكومة. حتى أزعم أنها تعبر عن حسن النية بأكثر مما تعبر عن حسن التدبير، وذلك تقدير لا ينتقص بأي حال من قدر المهندس إبراهيم محلب ولكنه ينبني على إدراك لمدى ثقل وجسامة المسؤوليات والتحديات التي تنتظره. في هذا الصدد أزعم أن العنوان الرئيسي لجريدة الأهرام أمس (الأربعاء 26/2) كان مبالغا إلى حد كبير حين نسب إلى الرجل قوله أن أولويات الحكومة تتمثل في عودة الأمن وجذب الاستثمارات وحل مشاكل العمال ونسف البيروقراطية. وأضاف النص المنشور تحت العنوان إلى القائمة ملف العدالة الاجتماعية. ولا أعرف كيف يمكن له أن يحارب على كل تلك الجبهات العريضة والمهمة خلال الأشهر القليلة القادمة، التي يفترض أن تجرى خلالها الانتخابات الرئاسية، وليس معروفا ما إذا كان الرئيس «الجديد» سيشكل وزارة جديدة لكي تنفذ برنامجه، أم أنه سينتظر إجراء الانتخابات التشريعية التي ستحدد نتائجها شكل الحكومة. أيا كان الأمر فالذي لاشك فيه أن الحمل الذي تحدث عنه المهندس محلب لا يفوق طاقته فحسب، وإنما يفوق طاقة أي رئيس حكومة آخر مهما بلغت كفاءته. ولو أن رئيس الجمهورية الجديد حقق بعض تلك الأهداف خلال سنوات حكمه، سواء كانت فترة واحدة أم فترتين، لكان ذلك إنجازا عظيما به يحتل مقعده في تاريخ البلاد. بسبب من ذلك فقد تمنيت أن يتمهل رئيس الوزراء في إطلاق التصريحات، وأن يكتفى بالإشارة إلى حاجته إلى بعض الوقت لدراسة الموقف وتحديد أولويات برنامجه. اسمع الكثير عن هِمَّة الرجل وحيويته وحماسه، الأمر الذي يجعلنا نحسن الظن به، لكنني أفرق بين الرغبات التي يطلق العنان فيها للخيال والأمنيات، وبين الإمكانيات المحكومة ليس فقط بالعناصر المتوافرة على أرض الواقع، ولكن أيضا بحدود الحركة المتاحة. إذ أزعم أن هامش حركته محدود للغاية على نحو يكاد يكبِّل مسيرته ولا يسمح له بتحقيق الإنجاز الذي ينشده، ولا أتحدث عنا عن العناوين والملفات التي أشار إليها في مؤتمره الصحفي، ولكنني أتحدث عن أي عنوان واحد منها، لا أريد أن أكون مثبطا أو داعيا إلى إطفاء فوانيس الفرح كما يقال لكنني أحاول قراءة الواقع من خلال القرائن والشواهد المتاحة. في هذا الصدد أرجو أن نتفق على عدة أمور بشأن فرصة الإنجاز المنشودة، إضافة إلى ما سبق أن ذكرته عن محدودية عمر الوزارة، من ذلك مثلا أن المهندس محلب تم اختياره باعتباره من التكنوقراط، وبالتالي فلا شأن له بالقرار السياسي، الأمر الذي سيفرض عليه إما أن يتحرك بعيدا عن السياسة، أو أن يلتزم بسياسات رسمتها جهات أخرى هو ليس طرفا فيها. من ذلك أيضا انه قَبِل بأن يترأس وزارة وهو يعلم أنه ليس أقوى رجل فيها، ولكن هناك من هو أقوى منه وأكثر قدرة على التأثير في القرار. من ذلك، أن ثمة مراكز قوى أهم من الوزارة في البلد، ولعلي لا أتجاوز كثيرا إذا قلت إن ثمة وزارة فوق الوزارة. الأولى تحكم وترسم السياسات والثانية تدير وتنفذ السياسات. يسلط الضوء على ذلك العنصر الأخير ما ذكره الفريق (آنذاك) عبدالفتاح السيسي في بيان القوات المسلحة الصادر في 3 يوليو الماضي، الذي أعلن فيه «خارطة الطريق» وعزل الدكتور محمد مرسي من منصبه، إذ تحدث في بنده الرابع عن قيام القوات المسلحة بإعداد «تقدير موقف استراتيجي على المستوى الداخلي والخارجي، تضمن أهم التحديات والمخاطر التي تواجه الوطن على المستوى الأمني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي». وفي فقرة سابقة من البيان المذكور تحدث الفريق السيسي عن «الرؤية الثاقبة» للقوات المسلحة، منوها بأن الشعب يدعوها إلى نصرته، لا لسلطة أو حكم، وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب الثورة. هذا البيان كان بمثابة إعلان عن انتقال القوات المسلحة من قوة تدافع عن حدود الوطن، إلى طرف في اللعبة السياسية له رؤيته الاستراتيجية لكل التحديات الخارجية والداخلية باختلاف مجالاتها. وهي الرؤية التي دفعتها إلى الانخراط في الشأن السياسي، ابتداء من عزل الدكتور مرسى وانتهاء بترشيح المشير السيسي رئيسا للجمهورية. لا أستطيع أن أقتنع بأن القيادة العامة للقوات المسلحة طوت أوراقها وتخلت عن رؤاها الاستراتيجية لتحديات الداخل والخارج بعدما صارت في صدارة المشهد السياسي. لكن القرائن التي بين أيدينا تشير إلى أن تلك الرؤى هي التي توجه السياسات الآن في الداخل والخارج. وذلك أوضح ما يكون في هيمنة الحلول الأمنية والاستبعاد المستمر للحلول السياسية في التعامل مع مختلف التحديات. تبدو المسألة أكثر تعقيدا إذا نظرنا إلى مشكلتي الاقتصاد والأمن، لأن التداخل بينهما شديد للغاية، حيث لا يتصور أحد أن تدور عجلة الاقتصاد دون أن يستقر الأمن، وقد أقنعتنا خبرة الأشهر الثمانية الماضية بأن المؤسسة الأمنية عاجزة عن أن تستجلب الاستقرار الذي يطلق عجلة الاقتصاد. وأن السياسة هي الرافعة الحقيقية لحل المشكلة الأمنية، وفي غيبتها ستظل العقدة بغير حل. وحين يحاول رئيس للوزراء حل المشكلة الاقتصادية ويده مغلولة في الشأن السياسي، فإنه لن يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وسيكون بحاجة إلى معجزة تتنزل من السماء لكي ينجز شيئا على ذلك الصعيد، ولا أعرف أن كان دعاؤنا له سيفيده في هذه الحالة أم لا.