16 سبتمبر 2025

تسجيل

مؤامرة من نوع آخر

26 نوفمبر 2015

الخبر أن جيران البناية الأثرية لاحظوا أن مجهولين جاءوا ذات يوم وشرعوا في هدم أجزاء منها ثم قاموا بتغطيتها، وعند منتصف الليل أحضروا معدات ثقيلة استخدموها في هدم ثلاثة أعمدة خرسانية في مدخلها، إلا أن الجيران الذين تشككوا في الأمر سارعوا إلى إبلاغ شرطة حي شرق الإسكندرية، التي قدم رجالها وأوقفوا الهدم. القصة نشرتها جريدة «الأهرام» في الأول من شهر نوفمبر الحالي. وتابعت بها ما سبق أن أشارت إليه تحت عنوان «جريمة أثرية بالإسكندرية» وكشف فيه عن أن الفيللا، التي صممها ٤ من المهندسين الفرنسيين، وبناها في عام ١٩٣٠ الثري اليهودي شيكوريل، تعد للهدم رغم أنها من المباني الأثرية بالمدينة. وكانت قوانين التأميم التي صدرت في ستينيات القرن الماضى قد وضعتها ضمن ممتلكات الدولة في السبعينيات. واستخدمتها إحدى شركات الملاحة البحرية، إلا أنها قامت ببيعها لمشترٍ جديد حاول هدمها لإقامة برج سكنى مكانها، رغم أنه لم يحصل على رخصة الهدم. ويلفت النظر في القصة أنها كانت مدرجة ضمن قائمة التراث المعمارى، إلا أنها أخرجت من القائمة في ظروف غامضة، الأمر الذي فتح الباب لهدمها. هذه واحدة من مئات القصص الأخرى التي يتداولها النشطاء الذين استنفروا للدفاع عن التراث المعمارى المهدد بالإبادة في أنحاء مصر. وهم الذين ما برحوا يطلقون نداءات تدعو لإنقاذ ذلك التراث الذي أصبح ضحية الجشع والجهل والفساد. وكما صرنا نسمع عن حملة «أنقذوا الإسكندرية»، فإن الغيورين من النشطاء نظموا حملات مماثلة لإنقاذ المبانى الأثرية والتاريخية في القاهرة والمنصورة ودمياط وبورسعيد وأسيوط.. إلخ. ولئن كانت القاهرة المملوكية والخديوية صاحبة الحظ الأوفر من تلك المبانى التاريخية باعتبار أنها ظلت عاصمة الدولة على مر العصور، فإن أعيان المصريين، الذين انتشروا في مختلف المحافظات وكانت لهم ملكياتهم أقاموا أبنية ومقرات صارت تحفا معمارية توزعت على تلك المحافظات، واحتلت الإسكندرية وبعض مدن الدلتا موقع الصدارة بينها. وبسبب ذلك الانتشار فإن مصر توفر لها كم هائل من الأبنية الأثرية والتاريخية. ولئن ظلت الآثار الفرعونية والقبطية والإسلامية في الواجهة السياحية، إلا أن تلك الأبنية التي كانت تخص أعيان البلاد بقيت في الظل سواء بسبب كثرتها أو بسبب انتشارها في بقية المحافظات. فى السنوات الأخيرة طرأ عاملان كان لهما تأثيرهما الفادح على تلك الثروة المعمارية الهائلة، الأول أن الاستثمار العقاري شهد إقبالاً كبيراً بعدما أصبح أهم وأضمن صور الاستثمار في مصر، أما الثاني فهو ظروف الفوضى التي مرت بها البلاد خصوصا في العام الأول لثورة ٢٠١١. وهي التي شهدت أكبر انقضاض ونهب للمبانى التاريخية والأراضي الزراعية. وبطبيعة الحال فإن الإهدار الذي تم لتلك الثروة التاريخية ما كان له أن يتم لولا الفساد المنتشر في المحليات الذي تراوح بين الإهمال وإصدار تراخيص الهدم بعد الاحتيال على القانون. في هذا الصدد ذكر منسق مبادرة (أنقذوا المنصورة) المهندس مهند فودة أن عشرين مبنى من العقارات التراثية هدمت أو أحرقت بعد ثورة ٢٠١١ وإن المدينة تضم ١٢٠ عقارا آخر مهددة بالهدم. وإذا كان ذلك حظ مدينة واحدة بالدلتا، فلك أن تتصور الموقف في بقية المدن، أو في القاهرة. وقد قرأت أن المشكاوات الخديوية في جامع الرفاعي بالقاهرة (عددها ٩٨ مشكاة) اختفت كلها وحل محلها نجف رخيص مما يُباع في حي العتبة. وقد عرضت واحدة من تلك المشكاوات في مزاد «كرستيز» بنحو ٣٩ ألف جنيه استرليني تعادل نصف مليون جنيه مصرى. أى أن ثمن تلك المشكاوات التي سرقت يعادل ٤٩ مليون جنيه. الكارثة متعددة الأوجه. وفساد المحليات وقصور القوانين، وغيبوبة المسؤولين، هذه كلها عوامل لعبت الدور الأكبر في استفحالها. وما يثير الانتباه في هذا الصدد أن حملة إنقاذ الثروة التاريخية ينادى لها المجتمع من خلال النشطاء الغيورين في حين أن الدولة غائبة تماما عن المشهد وتاركة الساحة للمافيات التي باتت تشن حرب إبادة منظمة على تلك الثروة.إنني أفهم جشع الذين يتطلعون إلى التربح من وراء هدم المباني التاريخية، لكنني لا أفهم أن تشجعهم أجهزة الدولة على ذلك بالتصريح تارة أو بغض البصر تارة أخرى. وإذ احترمت قرار محافظ الإسكندرية بالاستقالة من منصبه لأنه لم يستطع أن ينقذ المدينة من الغرق جراء الأمطار، فإننى لا أخفى دهشة إزاء وقوف مسؤولي الآثار والثقافة متفرجين رغم عجزهم عن وقف حملة إبادة شواهد التاريخ في أنحاء مصر. ثم إنني لا أستطيع أن أحسن الظن بالقانونيين، الذين يسارعون إلى تقديم البلاغات ضد كل من ينتقد السلطة ورموزها إلى حد اتهامهم بالخيانة العظمى. في حين لا يحركون ساكنا أمام تلك «المؤامرة» المفضوحة على ذاكرة الوطن وثروته المعمارية. أما الذين يهتفون لمصر ويتغنون بحبها فيبدو أن مصر التاريخ سقطت من حسبانهم، أو إن مصر بالنسبة إليهم باتت تعنى شيئا آخر لا نعرفه. إن هؤلاء جميعا ضالعون في المؤامرة على التاريخ التي تنسج ضد مصر في الظلام.