15 سبتمبر 2025

تسجيل

إذا ترجمت الأقوال إلى أفعال

25 أغسطس 2016

لو أن عناوين الصحف الصادرة هذه الأيام ترجمت إلى أفعال لأصبحت مصر جنة الفقراء. ولو أن كل حرف منها وزع على فقير في المحروسة لكفاه ذلك هو وذريته إلى يوم الدين. ولو أن أهل العالم المحيط صدقوا ما تقوله وسائل الإعلام عن تحقيق أحلام الفقراء ومحدودي الدخل، لتدفقت قوافل المهاجرين نحو الموانئ المصرية، ولطلبت مصر معونة دولية لوقف زحف جحافلهم الجرارة. ليس فيما أدعيه مبالغة، لأن من يطالع تصريحات المسؤولين التي تنقلها وسائل الإعلام هذه الأيام صباح مساء يلاحظ أنها جميعا تردد مقطوعة واحدة بصياغات شتى. أما عنوانها الرئيسي فهو أن الفقراء ومحدودي الدخل هم «نور أعين» الحكومة، وأن كل ما يتخذ الآن من إجراءات لرفع الأسعار لن يمسهم بسوء ولكنه في صالحهم في نهاية المطاف. لحسن حظ الحكومة أن الناس لم يعودوا يصدقون كلامها، وأن الإعلام الأمني والرسمي فقد صدقيته، لأنهم لو أخذوا كلامها على محمل الجد وصدقوها فسيخرجون غاضبين إلى الشوارع مطالبينها بتنفيذ وعودها ومحاسبين المسؤولين على ما أطلقوه من تصريحات وما روجوا له من مشروعات. من خبرتنا في مصر تعلمنا ألا نستبشر خيرا بتكثيف التصريحات حول أي قضية. وربما كان ذلك راجعا إلى تخوف كامن في ثقافتنا يعبر عن القلق على المستقبل. حتى الفرحة والضحك إذا ارتفعت وتيرتهما فإن المصري يسارع إلى التوجس مرددا عبارة «اللهم اجعله خيرا». صحيح أن المصريين مشهورون بالظرف ومعروف عنهم أنهم أهل نكتة. إلا أنني لم أجد في التراث الثقافي الذي وقعت عليه أنهم أهل فرح. وكأن الفرح ليس من تقاليد مجتمعاتنا الراسخة. وسواء كان ذلك راجعا إلى شيوع الظلم أو الفقر، فإننا تعلمنا أن المبالغة في التصريحات والوعود المتفائلة لا تكون في الأغلب رسالة إيجابية. وإنما هي في حقيقة الأمر تحاول أن تستر شيئا ما سلبيا أو مقلقا. حتى في أوساط مهنة الصحافة فإننا تعلمنا أن الخبر الذي تشدد الحكومة على نفيه وتلح على توصيل رسالة النفي إلى أوسع دائرة ممكنة من البشر، عادة ما يكون خبرا صحيحا ولكن الحسابات الأمنية والسياسية تسعى إلى طمس معالمه ومحوه من الذاكرة. ما يحدث في مصر الآن يؤيد ذلك الادعاء. فالمبالغة في التأكيد على أن الإجراءات الاقتصادية المتخذة لن تؤثر على الفقراء ومحدودي الدخل دالة على أن أولى الأمر أدركوا أن الفقراء ومحدودي الدخل هم أكثر من يكتوي بنار الأسعار، وأن الأغنياء لا يسعدهم حقا الزيادات التي حدثت في الأسعار. لكنها لن تجبر أحدا منهم على تغيير نمط حياته. ما يحدث بالنسبة للوعود التي تحاول دغدغة مشاعر الفقراء وترطيب جوانحهم. نستطيع أن نعممه على حكاية الإنجازات، التي باتت تتنافس الصحف على إبرازها والتهليل لها. إذ رغم أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن ثمة إنجازات فعلا واضحة في مشروعات شق الطرق مثلا، إلا أن المبالغة في الحديث عن الإنجاز المبهر وكيف أنه تجاوز الخيال وحقق ما لم يحققه الأولون والأخيرون تفوح منه رائحة المبالغة بقوة. على نحو يفقدنا الثقة فيها. وهو ما ينطبق عليه المثل القائل بأن الشيء إذا زاد على حده انقلب إلى ضده. دعوا الأفعال تتكلم عن نفسها، بحيث يلمسها الناس ويرونها بأعينهم بأكثر مما يسمعون عنها أو يهتف الإعلام لها. بكلام آخر فإن النموذج الذي يضرب والواقع الذي يتبلور يظل أكثر إقناعا بمراحل من سيل التصريحات وضجيج الإعلام وهتاف المهللين وتصفيقهم. على صعيد آخر فإن المسؤولين الذين يعولون على الإعلام ويغرقون الناس بالوعود على صفحات الصحف وبرامج التلفزيون، يخاطبون المجتمع بلغة تجاوزها الزمن. فما عاد الإعلام مؤثرا وتحت السيطرة كما كان عليه في القرن الماضي، ذلك أن تطور وسائل الاتصال أخرج الإعلام من سيطرة السلطة. بحيث ما عادت صاحبة الصوت الوحيد الذي يسمعونه، ولكن ظهرت إلى جانب إعلام السلطة منابر ووسائط أخرى خارج السيطرة وأقوى تأثيرا على المجتمع. ولا ينسى أيضا أن ما تطور ليس وسائل الإعلام والاتصال فحسب، ولكنه أيضا وعى الناس الذين انتشر بينهم التعليم وأصبحوا أكثر قدرة على التواصل مع العالم الخارجي. ومن الملاحظات ذات الدلالة في هذا الصدد أن ظهور الإعلام المستقل والخارج عن السيطرة له دوره المشهود الذي انعكس على تراجع توزيع الصحف المطبوعة وتراجع أعداد مشاهدي البرامج الحوارية (توك شو). ليس لدينا المسؤول الذي يملك شجاعة وثقة الإعلان على الملأ أنه يعد الناس بالعرق والدماء والألم، كما قال ونستون تشرشل حين رأس الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية. لكننا نعرف الكثير عن أساليب مداهنة الجماهير وتسويق الأوهام لها. ومن الفوارق المهمة بين النموذجين، أن الأول يعرف أنه سيساءل ويحاسب على ما يقول ويفعل، أما الثاني فهو مطمئن إلى أنه فوق الحساب والمساءلة. الأول يضع في اعتباره قوة المجتمع. في حين أن الثاني يعول على حناجر المهللين وربما قوة السلطة. إن حديث الإنجازات لن يشبع الفقراء أو يقنعهم. وما لم يلمسه هؤلاء بأيديهم وداخل بيوتهم، أو أن تدل الشواهد اليقينية على أن الفرج القريب قادم. فإنه سيصبح دخانا في الهواء يختفي أثره في غمضة عين. ملاحظتي الأخيرة أننا نسمع الكثير عن الإصلاح الاقتصادي، وكأن الإصلاح السياسي ليس واردا على الأجندة، فلا مستقبل له ولا أمل فيه وأنه من قبيل الأحلام بعيدة التحقيق التي لن يتسنى لجيلنا أن يرى لها أثرا على أرض الواقع.