19 سبتمبر 2025
تسجيلأجراس الحرب على الفساد في مصر التي جدد إطلاقها رئيس جهاز المحاسبات في الأسبوع الماضي لم تجد الصدى الذي تستحقه رغم خطورتها. أستثني من ذلك تعليقات معدودة، أبرزها ما ذكره الأستاذ نجاد البرعي المحامي والحقوقي في جريدة «المصري اليوم» (عدد 21/3) وأكد فيه على التضامن مع المستشار هشام جنينة، كما لفت الانتباه إلى أنه بدلا من التحقيق فيما ذكره من وقائع خطيرة ومثيرة على الملأ في جريدة الشروق (يومي 18 و19/3) فإن الرجل استدعى للتحقيق معه في أمر آخر، في رسالة مبطنة تهدده وتتوعده.عندي كلام في الموضوع أسجله من باب التنبيه والتذكير وألخصه في النقاط التالية: < أن مؤسسة الفساد في مصر أكبر وأقوى مما نتصور. ذلك أن نموها وتشعب أطرافها وتعدد مصالحها طوال أربعين سنة على الأقل فرض لها كيانا له أقدامه الراسخة وجذوره العميقة، وهو ما وفر لها رصيدا من الجرأة يمكنها من التحدي والمنازلة، بل وإنزال العقاب بمن يحاول اعتراض طريقها وما محاولات التنكيل بالمستشار جنينة وحملات التشويه الإعلامي التي تستهدفه إلا من تجليات ذلك المسعى. لذلك أزعم أن الرجل إذا أصر على موقفه من حماية أموال الدولة والتصدي لمؤسسة الفساد، فإنه لن يسلم من التطاول والأذى.< أن الرجل أصبح يخاطب الإعلام محاولا وضع الحقائق أمام الرأي العام، بعدما أدرك أن مخاطبته لأجهزة الدولة لم تحقق النتائج التي يرجوها. ذلك أن بعض الأصداء التي تلقاها كانت دون المستوى الذي توقعه، في حين أنه في حالات عدة لم يتلق أية أصداء، حين وجه رسائل بوقائع معينة طلب التحقيق فيها، إلا أنه لم يتلق ردا من الجهات المعنية ناهيك عن أن موظفي جهاز المحاسبات منعوا من أداء واجبهم في بعض الجهات الحكومية.< أن إحدى المشكلات التي تعترض المعركة ضد مؤسسة الفساد أن أطرافها من كبار الموظفين والمسؤولين في الدولة. الذين يفترض فيهم حماية المال العام والتصدي لأي عدوان عليه. وذلك أوضح ما يكون في ملف الثروة العقارية والأراضي الجديدة. إذ في حين أن أغلب التوسعات العمرانية قصد بها توفير احتياجات الأجيال الجديدة ومواكبة الزيادة المستمرة في أعداد السكان، تبين أن الذين استأثروا بالأراضي الجديدة هم الفئات المتميزة التي لا تعانى أية مشكلة في السكن. وهؤلاء أرادوا أن يدخلوا إلى عالم الثراء من ذلك الباب، ولم تكن المشكلة مقصورة على ذلك لأن الذين حصلوا على تلك الأراضي بالمخالفة للقانون الذي خصصها لغيرهم، اشتروها بأثمان بخسة ضيعت على الدولة مليارات الجنيهات. وما حدث في أراضي الحزام الأخضر بمدينة 6 أكتوبر دليل على ذلك، فحين خصصت هيئة المجتمعات العمرانية 15.614 فدان لشركة 6 أكتوبر الزراعية، فقد تم توزيعها على الفئات التالية: 3400 فدان للهيئات القضائية (أعضاء نادي القضاة والنيابة العامة العاملون بالمحكمة الدستورية) ــ 3900 فدان لضباط أمن الدولة بالقاهرة والجيزة ــ 9314 فدانا لشركة 6 أكتوبر ــ وحسب التقرير الرسمي للجهاز فإن ميزانية الدولة خسرت في هذه العملية نحو 4 مليارات جنيه.< ليست المشكلة مقصورة على العدوان الذي تمارسه الفئات المتميزة في المجتمع التي يفترض أنها تحرس الأمن والقانون في مصر. وإنما لها وجها آخر يتمثل في أن هؤلاء بأدائهم يقدمون نموذجا يحتذيه الآخرون، الأمر الذي يعني أنهم لا يمارسون الفساد فحسب وإنما يشيعونه بين الناس أيضا. ومن هذه الزاوية فإنهم لا يصبحون مجرد أفراد أو جهات ضالعة في الفساد، وإنما يتحولون إلى «بؤر» تروج له بين الناس.< لا نستطيع أن نفصل بين ضلوع شرائح واسعة من نخب المجتمع وفئاته المتميزة في الفساد وبين غياب الرقابة والمحاسبة في مصر. إذ طالما بقيت أجهزة الرقابة الحكومية تحت سلطان الدولة. وطالما ظل البرلمان (إن وجد) ذراعا للسلطة وليس رقيبا عليها (كما كان طوال الأربعين سنة الماضية) وإزاء هشاشة المجالس المحلية المنتخبة وتحولها إلى جماعات من المنتفعين، فإن الفساد يصبح مطلق اليد وبغير حدود. وإذا صح ذلك فهو يعنى أن الفساد والاستبداد متلازمان، وأن الديمقراطية لا تجتث الفساد حقا، ولكنها توفر أفضل السبل لمكافحته والحد من مداه.< بسبب من ذلك فإننا لا نستطيع أن نطمئن إلى قدرة مؤسسة واحدة على التصدي للفساد في مصر، لأن المهمة أثقل بكثير من أن ينهض جهاز المحاسبات بعدما تصادف أن ترأسه قاضٍ نزيه اختار أن يغامر بخوض هذه المعركة. وما لم تقف السلطة إلى جواره فإنني أشك كثيرا في إمكانية الانتصار فيها.إنني لا أريد أن أقلل من شأن الجهد الذي يبذله جهاز المحاسبات، لكنني أريد أن أقول إن مكافحة الفساد ينبغي أن تكون سياسة الدولة وليست مهمة أي جهاز رقابي لوحده. وإلى أن يتحقق ذلك فإن دور جهاز المحاسبات سيظل محصورا في السعي لفضح الفساد وليس لوقف انتشاره والقضاء عليه. وتلك مهمة مطلوبة لا ريب، لأنها على الأقل تشير إلى مواطن الداء بما يكشف مصادره ويمهد الطريق إلى علاجه إذا ما توافرت الإرادة السياسية لذلك.