16 سبتمبر 2025

تسجيل

علامة تعجب

23 ديسمبر 2015

رئيسة الإذاعة المصرية حولت حلقتين من برنامج «علامة تعجب» الذي يقدمه الفنان حسن حسني للتحقيق. السبب أن إحدى الحلقتين انتقدت المسؤولين في الحكومة لأنهم فقدوا السيطرة على الأسواق التي تشهد ارتفاعا شديدا في الأسعار. أما الحلقة الثانية فقد انتقدت وزارة الداخلية وتطرقت إلى وجود انفلات أمني في الشارع المصري.الخبر نشرته جريدة الوطن يوم الأحد الماضي (٢٠/١٢) ونقلت عن رئيسة الإذاعة قولها إنها ترفض أي تعليقات غير مناسبة على شبكة البرنامج العام، فضلا عن أن توقيت بث الحلقتين غير مناسب، خصوصا أنها ترى أن منظومة الأسعار انضبطت بشكل كبير في الفترة الأخيرة، فإن وزارة الداخلية تؤدي دورها على أكمل وجه.استوقفني الخبر، وظللت طوال الأيام الثلاثة الماضية أفتش عن تصويب أو تكذيب له، من جانب أي جهة مسؤولة عن الإذاعة، خصوصا من جانب رئيستها نادية مبروك التي نقل الكلام على لسانها، لكني لم أجد. من ثَمَّ رجحت التعامل معه باعتباره خبرا صحيحا، صحيح أنه قد يبدو غير مهم وسط طوفان الأخبار التي تنهال علينا كل يوم، إلا أنني اعتبرته كاشفا وله دلالته التي ينبغي أن نتوقف عندها. ذلك أن البرنامج (علامة تعجب) يفترض أنه ناقد لما يجري في مصر، لكن مشكلة الحلقتين أنهما انتقدتا نشاطا للحكومة في دائرتين كل منهما له حساسيته الخاصة عند البعض. فالقوات المسلحة أصبحت تؤدي دورا في توفير السلع في الأسواق عبر منافذ البيع التي وفرتها، وحسب التصريحات التي تنشرها الصحف فإن ذلك ــ بالتعاون مع وزارة التموين ــ أدى إلى انخفاض الأسعار. ولم يعجب رئيسة الإذاعة أو الجهة التي تراقب البث أن يتحدث برنامج ناقد بطبيعته عن ارتفاع الأسعار، لأن التوجيه الرسمي أن الأسعار انخفضت. وإذا كانت الحلقة الأولى لم تذكر القوات المسلحة بالاسم إلا أن معد البرنامج تخلى عن الحذر في الحلقة الثانية ومارس درجة أكبر من الجرأة حين انتقد وزارة الداخلية، الأمر الذي يعد من المكروهات لدى بعض دوائر السلطة ومن المحرمات لدى بعض الدوائر الأخرى. ولأن الأمر كذلك فقد ارتأى البصاصون الذين يتابعون البث أن الحلقتين وقعتا في المحظور وكسرتا الإشارات الحمراء، الأمر الذي استوجب التحقيق ولفت النظر، على الأقل كي لا تتكرر «الغلطة» مرة أخرى وينخرط الجميع في طابور «كله تمام».رغم أن عدد مستمعي الإذاعة أقل بكثير من مشاهدي التلفزيون، كما أن الأمر كان يمكن أن يمر ولا يشعر به أحد لولا نشر خبر الإحالة للتحقيق، فإن الإجراء الذي اتخذ للمساءلة والمحاسبة كشف عن مدى حساسية المسؤولين عن الإعلام الرسمي إزاء أي نقد للحكومة، خصوصا إذا ما بدا أنه يمس الجيش والشرطة. ولا تزال حاضرة في الأذهان واقعة إحدى مذيعات التلفزيون التي أوقفت وأحيلت للتحقيق لأنها تحدثت عن أهمية محاسبة أي مسؤول في الدولة، حتى إذا كان رئيس الجمهورية. والملاحظ أن تلك الحساسية تتفاقم بمضي الوقت، الأمر الذي أصبح يشكل قيودا على حرية التعبير تتزايد كل حين. إذ ثمة قرائن عدة تدل على أن ما فعلته رئيسة الإذاعة في الواقعة البسيطة التي نحن بصددها نموذج للسلوك المطلوب في المسؤول الإعلامي وشرط استمراره في موقعه، حتى بات يربى على أن مديح السلطة وحده المسموح به وأن نقدها بأي صورة إثم يورد صاحبه موارد التهلكة. تشهد بذلك قائمة أسماء مقدمي البرامج الذين اختفوا من شاشات التلفزيون خلال العام الأخير.هذا الذي حدث في الإذاعة والإعلام بعامة ليس استثناء، لأن له نظيره في عدة مجالات أخرى، خصوصا مجالات التعليم والجامعات والأوقاف وكل مجال آخر له اتصال بالرأي العام، حتى سمعت من أحد أساتذة العلوم السياسية قوله إنه ضاق بالتوجيهات والضغوط التي تمارس في هذا الصدد. وحين وجد نفسه ممنوعا من الكلام في السياسة ـــ التي هي موضوع المادة التي يدرسها ــ فإنه اعتذر عن عدم مواصلة التدريس وطلب إعفاءه من محاضرة الطلاب.في الثقافة المصرية القديمة فإن الفرعون يحاط بقداسة من نوع خاص، لأنه كان يعد الملك الإله، ولا تزال لتلك الثقافة أصداؤها، بحيث امتدت القداسة للكهنة أيضا، وتطور الأمر حتى اتسع نطاقها، بحيث شملت بعض مؤسسات الدولة، وفي الأفق ما يشير إلى أن المؤشر في صعود حتى وجدنا أن أغلبية البرلمان الجديد تنطلق من التسليم بتلك القداسة التي أعطيت اسما جديدا هو دعم الدولة. وصار من اليسير تصنيف الناقدين بأنهم عناصر الطابور الخامس الذين يتآمرون من خلال تمثيلهم لجيل جديد من الحرب ضد الدولة. وتلك أجواء من الطبيعي أن تفرز لنا جيلا من المسؤولين مثل رئيسة الإذاعة التي أحالت للتحقيق من لم يردد هتاف «كله تمام» في برنامج نقدي متواضع. والمشكلة لا تكمن فقط في إفراز ذلك الجيل من المسؤولين، ولكنها أيضا فيما تبثه وتزرعه تلك الثقافة في المجتمع وأثرها على المستقبل.