18 سبتمبر 2025
تسجيللديّ كلمتان بخصوص جريمة كنيسة الوراق التي أفضت إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة 18 آخرين، الكلمة الأولى يلخصها السؤال: من فعلها؟ ذلك أنني لا أتصور أن تنشق الأرض فجأة عن اثنين من الملثمين يقومان بإطلاق الرصاص على المشاركين في حفل الزفاف المقام بالكنيسة، ثم يختفي الاثنان ولا يعثر لهما على أثر بعد ذلك. لقد ذكرت الصحف المصرية أمس أن خمسة من المشتبه بهم يجرى التحقيق معهم في الجريمة، وتلك خطوة إيجابية لا ريب، لكن المهم أن يقود ذلك في نهاية المطاف إلى معرفة الفاعلين وتحديد هوياتهم، وهل هم أشخاص مهووسون، أم أنهم ينتمون إلى جماعات معروفة او غير معروفة في مصر، أم أنهم طرف ثالث لا ينتمي إلى هؤلاء أو هؤلاء ولكن له مصلحة في تأجيج الفتنة وتوسيع نطاقها في مصر، بحيث لا تكون مقصورة على الصراع الدائر بين الإسلاميين والسلطة وإنما تمتد لكي تشمل الصراع بين المسلمين والأقباط أيضا. إننا لم نعرف حتى الآن من حرق الكنائس في مصر في أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية، بل إننا لم نعرف من فجر كنيسة القديسين في الإسكندرية في الأول من شهر يناير عام 2011، وهى الجريمة الغامضة التي أثيرت شكوك قوية حول ضلوع أجهزة الأمن السرية فيها، حيث قيل إن تلك الأجهزة جندت أحد العناصر المتطرفة لارتكاب الجريمة وهو اللغط الذي لم يحسم حتى هذه اللحظة، الأمر الذي يعني أن الشكوك بخصوصه لاتزال قائمة. إن التقاعس عن تحديد الجناة لا يعنى فقط أن ثمة فشلا امنيا ينبغي تداركه، لكنه أيضا يفتح الباب لإساءة الظن بدور الأجهزة الأمنية في العملية وقد سمعت شيئا من ذلك القبيل من أشخاص أصبحوا مقتنعين أن ما جرى في كنيسة الوراق يرضى الأجهزة الأمنية لسببين أساسيين هما: إنه يرفع من وتيرة التوتر في البلد ويشد انتباه الجميع إلى ضرورة الاحتشاد لمواجهة «الإرهاب»، بما يؤدى تلقائيا إلى صرف الانتباه عن المشكلات الحياتية الأخرى التي فشلت الحكومة في حلها. السبب الثاني أن عدم تحديد الفاعلين يفتح الباب لاتهام جميع الإسلاميين وفي المقدمة منهم التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية الذي يعد الإخوان أهم فصائله. في حين أن التحديد ــ إذا تم ــ من شأنه أن يشير بأصابع الاتهام إلى طرف بذاته، كما أنه سوف يبرئ ساحة بقية الأطراف وذلك ليس مرغوبا في الوقت الراهن. لقد سارعت وسائل الإعلام المصرية إلى استثمار ما جرى سياسيا، فضمت ما جرى إلى حملة الشيطنة وتعميق الكراهية الرائجة هذه الأيام. حتى كان العنوان البارز على الصفحة الأولى لجريدة التحرير كالتالي: جريمة الإخوان في الوراق، وهو ذات الموقف الذي تبنته عدة تعليقات ورسوم كاريكاتورية أخرى. كلمتي الثانية تتعلق بمصادفة لا تخلو من دلالة. إذ في الوقت الذي أجرت فيه وسائل الإعلام المصرية تغطية واسعة للضحايا الأربعة الذين قتلوا في جريمة كنيسة الوراق، كان قد تم التعرف على جثث أربع أشخاص من المحترقين في مسجد الإيمان بمدينة نصر، وتم دفنهم في مواكب حزينة صامتة. الأربعة هم: محمود عزب متولي من منيا القمح ــ شرقية ــ أسامة هلال عامر من المحلة الكبرى ــ فكرى المغلاوي من دمياط ــ مصطفى نور الدين فتحي المعداوي وهو مهندس برمجيات خرجت جنازته أمس الأول من مسجد الحصري بمدينة 6 أكتوبر، ليس بعيدا كثيرا عن منطقة الوراق، وهؤلاء الأربعة كانوا ضمن 42 جثة كان قد تم إحراقها وتفحمت يوم 14 أغسطس الماضي بعد نقلها إلى مسجد الإيمان ضمن 300 جثة أخرى لضحايا فض اعتصام رابعة، وحسبما نشرت الصحف في الأسبوع الماضي فهناك أكثر من 25 جثة أخرى محترقة مودعة في مشرحة زينهم منذ نحو شهرين لم يتم التعرف على أصحابها. كان شيئا جيدا أن يشيع الأربعة الذين قتلوا في حادث جريمة كنيسة الوراق في جنازة مهيبة تقدمها المحافظ وحضرها كبار رجال القوم، وان يجرى رئيس الوزراء اتصالا هاتفيا مع بطريرك الأقباط ليقدم إليه العزاء والمواساة. لكنى لم استطع أن أنسى جنازات الأربعة الذين احترقوا وتم دفنهم في وقت متزامن بعيدا عن الأعين والأضواء، ولم أستطع أن أتخلص من صور اقرانهم الذين احترقوا في مسجد الإيمان، ولا زملائهم الأربعين الذين احترقوا في عربة الترحيلات التي نقلتهم إلى سجن أبوزعبل، ولا الثلاثة آلاف الذين قتلوا أثناء فض الاعتصامات وأسقطهم المجتمع من الذاكرة. لست أشك في أن المواساة المجتمعية لضحايا حادث إطلاق النار على رواد الكنيسة خففت بصورة نسبية من فجيعة أهليهم، لكنني لم أفهم ذلك التجاهل الذي يصل إلى حد الشماتة والازدراء لضحايا فض الاعتصامات مع أنهم أيضاً مواطنون مصريون لهم حقهم في الكرامة حتى إذا كانوا معارضين، وإذا نزعت عنهم السياسة تلك الكرامة وهم أحياء فإن الأخلاق الإنسانية ينبغي أن تحتفظ لهم بكرامتهم وهم أموات.