15 سبتمبر 2025

تسجيل

الإفك المبين في تغير موقف الإسرائيليين

23 أغسطس 2016

الفضيلة الوحيدة لأحاديث التطبيع أن اللعب فيها صار على المكشوف، إذ سقطت الأقنعة وغدا الكلام فيها مباشرا بغير مواربة أو حياء. (١) حين رفض لاعب الجودو المصري إسلام الشهابي مصافحة خصمه الإسرائيلي في أولمبياد ريو، فإن أحد المثقفين المصريين انتقده في عمود نشرته صحيفة المصري اليوم (عدد ١٤ /٨) تحت عنوان «سقطة الشهابي». أما الرسام البرازيلي فيني أوليفيرا فقد كانت له قراءة مختلفة للمشهد، ذلك أنه رسم المتصارعين المصري والإسرائيلي، لكنه أظهر العلم الإسرائيلي على صدر الأخير وهو يقطر دما. وأوحى بذلك للقارئ أن المصارع المصري لم ير الإسرائيلي رياضيا ولا مصارعا، لكنه رآه قاتلا واستحضر التاريخ في قطرات الدماء التي هطلت من العلم، وكان ذلك تعبيرا بليغا صوّر المفارقة بين مثقف مصري من أنصار التطبيع سقطت القضية من ذاكرته، وبين فنان برازيلي شريف ظلت القضية حاضرة في وعيه. هذه اللقطة تشكل مدخلا لقراءة خطاب دعاة التطبيع من جانب المثقفين المصريين والعرب، ذلك أن أغلبهم ــ إن لم يكن كلهم ــ فعلوا ما فعله نموذج المثقف المصري، حين سقطت من ذاكرته الجريمة التاريخية، بحيث لم يعد يرى سوى اتجاهات الريح والحسابات السياسية الراهنة، ولست أتردد في التعميم على الأقل فهم في مصر واحد من اثنين. إما أنهم يتجاهلون الجريمة تماما، فلا ذكر في خطابهم عن اغتصاب فلسطين أو الاحتلال الاستيطاني. وفي أحسن أحوالهم فإنهم اعتبروا ربما أن هناك قضية ولكن لا ينبغي أن نشغل أنفسنا بها في الوقت الراهن بعدما ضيعنا سنين طويلة من العمر في رفع راياتها والهتاف لها. هذا التجاهل لقضية الاغتصاب والاحتلال يعبر عن خلل فادح آخر في الرؤية يهز أساس نظرية الأمن القومي المصري والعربي، ذلك أن فكرة إقامة دولة لليهود إذا كانت حلما راود قادة الحركة الصهيونية منذ القرن التاسع عشر فإنها أيضا كانت استجابة للحرص الغربي على تطويق مصر وإقامة رأس حربة للغرب في المشرق العربي، وأي قارئ لتاريخ الحركة الصهيونية يعرف جيدا أن من بين الأفكار المبكرة التي طرحت لإقامة وطن قومي لليهود أن تكون شبه جزيرة سيناء أو أوغندا مقرا له. والأولى داخل حدود مصر والثانية لدى منابع نيلها. وقد تحدث وزير المستعمرات البريطاني في عام ١٩٠٣ عن حكم ذاتي لليهود في أوغندا. كما سافر إلى هناك لذلك الغرض وفد يمثل المؤتمر اليهودي العالمي. إلا أنه عاد غير مقتنع بالفكرة. جرى الحديث أيضا عن وطن لهم في ليبيا (على حدود مصر الغربية)، ولكن رجحت في النهاية أيضا فكرة إقامة الوطن في فلسطين التي استمدت شرعيتها من الزعم الأسطوري بأنها «أرض الميعاد» التي خص الله بها «شعبه المختار». من ثَمَّ جاء اختيار فلسطين حلا توفيقيا استهدف إصابة ثلاثة عصافير بحجر واحد، الأول يلبي مطالب الوطن القومي الذي ألحت عليه الحركة الصهيونية، الثاني يهدد مصر ويراقبها، الثالث ينشئ القاعدة الغربية في قلب العالم العربي. وكان ذلك وراء صدور وعد بلفور عام ١٩١٧، من جانب وزير خارجية بريطانيا، القوة الاستعمارية الكبرى في ذلك الزمان. (٢) هذه الخلفية ظلت حاكمة للنظر المصري إلى إسرائيل منذ ظهرت إلى الوجود، ومن ثم صارت أحد أهم أسس نظرية أمنها القومي، إلا أننا نسمع من دعاة التطبيع «اجتهادا» آخر يهدم النظرة من أساسها مستدعيا ثلاث حجج هي: أن إسرائيل اختلفت الآن وقدمت نموذجا مغايرا لذلك التي استقر في أذهان جيلنا ــ وأنها صارت قوة مهمة في المنطقة اقتصاديا وعسكريا الأمر الذي حولها إلى شريك في رسم خرائطها وينبغي ألا تترك لتنفرد بذلك ــ الحجة الثالثة أن العرب قاطعوها طوال نحو سبعين عاما، لكن ذلك لم يغير شيئا، وإنما ظلت الرياح تجري لصالحها طوال الوقت. الحجة الأولى هي الأخطر والأكثر تدليسا، ذلك أن «إسرائيل الجديدة» حسب تعبيرهم هي الأسوأ في تاريخها ــ من حيث هي الأكثر استعلاء ويمينية وعنفا. لن أستشهد في ذلك بمقولات معارضين تاريخيين لسياساتها مثل ناعوم تشومسكي أستاذ اللغويات اليهودي الشهير المقيم في الولايات المتحدة، ولا إسرائيل شاحاك الذي رأس منظمة حقوق الإنسان في إسرائيل. ولن أستعرض آراء الناقدين لسياستها العنصرية والاستعمارية من أمثال جدعون ليفي وأميرة هاس في كتاباتهما التي تنشرها صحيفة هاآرتس، لكنني سأنقل بعضا من مئات الشهادات الصادرة عن عناصر في داخل النظام الحاكم منها ما يلي: • شهادة البروفيسور زئيف شترنهال رئيس قسم العلوم السياسية في الجامعة العبرية، ففي مقابلة أجراها مع موقع «يسرائيل بلاس» (في ٢٤/ ٥/ ٢٠١٦) ذكر ما نصه:«ممارسات إسرائيل كدولة وكمجتمع تجاه الفلسطينيين تستند إلى بواعث فاشية، وهي تعيد إلى الأذهان ما أصبحت عليه ألمانيا بعد وصول النازيين إلى الحكم». • إيهود باراك رئيس الوزراء ووزير الحرب الأسبق ذكر أنه: في إسرائيل تتعاظم مظاهر الفاشية باطراد، والنخب السياسية الحاكمة تشجع على ذلك (صحيفة ميكور ريشون ٢٢/ ٥ / ٢٠١٦). • المفكر الصهيوني اليميني اينمار كرمز كرر الفكرة السابقة ذاتها في نفس الجريدة (عدد ١٧/ ٥/ ٢٠١٦) حيث قال: بات واضحا أن المجتمع (الإسرائيلي) يمضي على ذات المنهج الذي سار عليه الألمان بعد صعود النازيين إلى الحكم. • نائب رئيس هيئة أركان الجيش يائير جولان نقل عنه قوله: يقلقني أن إسرائيل باتت تتجه ببطء لكن باطراد نحو المكان الذي كانت فيه ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي (هاآرتس ٥/ ٥/ ٢٠١٦). • في العلن يتباهى رئيس الوزراء نتنياهو بـ«بطولات» منظمة «اتسل» التي نفذت مذبحة دير ياسين الشهيرة (٩/ ٤/ ١٩٤٨) ويعتبر منفذيها «أبطالا» (هاآرتس ٣/ ٤/ ٢٠١٦). • أطلقت بلدية مدينة بيت شميش اسم الجندي اليور أذاريا، الذي أعدم الفتى الفلسطيني الجريح عبد السلام الشريف في مارس الماضي (هاآرتس ٣١/ ٣/ ٢٠١٦). • بين استطلاع أجري بين الإسرائيليين أن أكثر من ٥٠٪ من الإسرائيليين يؤيدون التمثيل بجثث الفلسطينيين بعد قتلهم (معاريف ٧/ ١١/ ٢٠١٥). (٣) من الملاحظات المهمة في هذا الصدد أن أفيجدور ليبرمان نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع الحالي الذي يعد أحد رموز الإرهاب في إسرائيل امتدح في تصريح أخير العلاقة الإستراتيجية الناجحة بين إسرائيل ومصر، إذ اعتبرها أهم حليف لبلاده في المنطقة، وهو ذاته الذي صرح في عام 2009 بأن مصر أخطر على إسرائيل من إيران، أسوأ من ذلك أنه دعا إلى قصف السد العالي وإغراق مصر، وكان ولا يزال يسخر من عملية السلام (الصحفي أوري أفنيري اعتبر أن ضمه إلى حكومة نتنياهو عمل جنوني وانتحاري - هاآرتس ٢٥/ ٥/ ٢٠١٦). هذا التباين في موقف الرجل إزاء مصر قد يراه البعض تطورا «إيجابيا»، لكنني أزعم أن دلالاته أكبر وأعمق من ذلك التبسيط المخل والساذج، إذ لا يمكن لعاقل حتى في داخل إسرائيل ذاتها وبين عناصر اليمين هناك أن يخطر على باله احتمال أن يكون الرجل قد تغير، لكن الذي تغير حقا هو الدور المصري، فحين تحدث ليبرمان عن ضرب السد العالي فإنه كان يرى مصر الكبيرة التي لا سبيل إلى التعامل معها وكسر كبريائها إلا بمثل ذلك الأسلوب، لكن مصر بدت له على صورة أخرى في السنوات الأخيرة، إذ يراها صغيرة تستحق التعاطف والمهادنة وليس القصف والإغراق، كما أنه رأى تأثير ذلك على أنظمة العالم العربي التي اقتنعت بأن عدوها الاستراتيجي بات إيران وليس إسرائيل، وهو ما يؤيد ما سبق أن قلته من أن المتغير الحقيقي في المشهد كان الطرف المصري والعربي، في حين أن إسرائيل لم تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء سواء في مخططات التوسع والاستيطان التي ترتفع مؤشراتها حينا بعد حين، أو في الإصرار على قمع الفلسطينيين وإذلالهم. (٤) من أغرب ما روج له المطبعون الادعاء بأن إسرائيل تخطط لبناء شرق أوسط جديد تحتل فيه دورا مركزيا، ولا ينبغي على مصر أن تقف متفرجة إزاء ذلك. فذلك مستوى آخر من التدليس والتغليط يعظم من الدور الإسرائيلي ويلغي على نحو مدهش العالم العربي والإسلامي، حيث لا يرى فيها سوى أنظمة منبطحة وشعوب عاجزة، وهم يتخذون لحظة الانفراط والانكسار الحالية من جانب الأنظمة لكي يبنوا عليها رؤية للمستقبل، غير مدركين أن تلك لحظة عابرة في التاريخ، أسهم الانكسار والانكفاء المصري بدور أساسي في إطلاقها، في حين أن هذه ليست مصر الحقيقية، وأن الفوضى التي ضربت العالم العربي لا تعبر عن حقيقة الشعوب العربية، فضلا عن توتر العلاقات مع إيران أو مخاصمة تركيا ليس أبديا، ولكنه سحابة صيف لا تلبث أن تزول. هم أيضا يسوغون الانبطاح بدعوى أنه بعد سبعين سنة من الخصام، فإن إسرائيل ازدادت تمكينا وقوة، بالمقابل فلا المقاطعة أفلحت ولا فلسطين تحررت ولا العالم العربي استفاق ونهض. وردي على ذلك أن الفشل ــ إذا صح ــ فإنه يحسب على الأنظمة وليس على الشعوب، وأنه يعالج باستعادة صوت الشعوب ودورها وليس التسليم للعدو، كما يكون بالسعي للملمة الصف العربي والإسلامي وليس تجاهله والارتماء في أحضان العدو. وإذا تذكرنا أن الاحتلال هو الموضوع الرئيسي الذي لا يسقط بالتقادم، فلا حل له سوى المقاومة بأشكالها المختلفة، الأمر الذي يعني أن التطبيع يظل غطاء للهزيمة الشاملة وإشهارا للانبطاح والإفلاس. وإذا طال به الأجل، فنحن مسؤولون عن الالتزام بالموقف الشريف ولسنا مسؤولين عن نتائجه، ولست أنسى في هذا الصدد ما سمعته من الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش بعدما وقع على اتفاق «دايتون» لإنهاء الحرب بين بلاده وصربيا (عام ١٩٩٥) حين قال: بوسع أي قائد أن يعقد ما شاء من اتفاقات لإقرار السلام، ولكن يحظر عليه أن يتنازل عن حقه الأساسي، فربما استطاعت الأجيال اللاحقة أن تستعيد ذلك الحق، إذ بوسعه أن يتعامل مع الحاضر قدر استطاعته، لكنه لا يملك الحق في مصادرة المستقبل - للموضوع بقية في الأسبوع المقبل بإذن الله.