16 سبتمبر 2025
تسجيلما جرى في المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية المصرية ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، صحيح أن مفاجآتها ومفارقاتها وفرت فرصة نادرة استعرض فيها ظرفاء المصريين مواهبهم ببذخ غير مألوف، إلا أن لها وجها آخر يدعونا لأن ننتقل بسرعة من الهزل إلى الجد، إذ أزعم أن من أبرز نتائج تلك الجولة ذلك التراجع المشهود في نسبة المشاركين في التصويت وهو ما يعني أن الإدارة السياسية حصلت على تقرير «ضعيف» في الاختبار. الأمر الثاني الذي يستحق النظر أن العبث بالفتوى لحث الناس على التصويت أخرج أغلبية المصريين من الملة ووجب تكفيرهم. لست مشغولا كثيرا بمن نجح ومن خسر ومن أعاد، فحدود الجميع وأدوارهم معروفة سلفا، فلا الذي نجح يستحق التهنئة ولا من خسر يستحق المواساة. لكن أكثر ما همني كان مفاجأة العزوف المدوِّي عن التصويت، الذي وجدته بمثابة مظاهرة احتجاجية صامتة، لم ترتب ولم تكن بحاجة لأي تصريح، والمشاركون فيها أفلتوا من الملاحقة والمحاكمة. وغاية ما يمكن أن يعاقبوا به هو توقيع غرامة ٥٠٠ جنيه على الممتنع إذا لم يكن لديه عذر مقبول من مرض أو سفر أو خلافه. ذلك أن قانون التظاهر إذا كان قد حبس الجميع في البيوت وحذرهم من أي تعبير عن الاحتجاج السلمي، وبعدما وصل الإنذار إلى عنوان كل ناشط حين أطلقت الشرطة الرصاص وقتلت المحامية شيماء الصباغ في قلب القاهرة حين كانت تحمل باقة زهور في مسيرة سلمية، إزاء كل ذلك فإن المجتمع اختزن الاحتجاج وتحين فرصة الانتخابات لكي يعلن عن موقفه دون هتاف أو لافتات أو مسيرة.لا أستطيع أن أدعي بأن الاحتجاج كان الدافع الوحيد للإحجام عن التصويت، ولديَّ استعداد لأن أفهم أن هناك أسبابا أخرى تتعلق بالتنظيم والارتباك الذي أحدثه توزيع المقاعد بين القوائم والأفراد المرشحين، إلا أن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل الاحتجاج كسبب مهم للإحجام، خصوصا بين الشباب الذين أجهضت أحلامهم، ومتوسطي الدخل الذين قصمت أعباء المعيشة ظهورهم، وما عاد لديهم ما يتعلقون به في المستقبل، ناهيك عن ثوار يناير الذين ذهبت جهودهم وتضحياتهم هباء.لا أجادل في مسألة ضعف الأحزاب، لكنني أزعم أنه ليس سببا وجيها، فقد أقبل المصريون على استفتاءات وانتخابات سابقة كان الضعف فيها قائما، لأن الآمال كانت أكبر والأفق تلوح فيه بعض عناصر الإشراق. ثم إنك إذا لاحظت أن نصيب القوائم الحزبية لا يتجاوز ٢٠٪ من مقاعد البرلمان، فسيقنعك ذلك بأن ضعف الأحزاب محدود التأثير على نسبة الإقبال، لأن ٨٪ من المقاعد مفتوحة للجميع ولا علاقة لها بالأحزاب.أسخف ما قرأت في تفسير إحجام الأغلبية عن التصويت أن الناس لجأوا إلى ذلك محبة في الرئيس وتعبيرا عن رفض البرلمان الذي قيل إنه سيعوق حركته ويحد من سلطاته. وفي قول آخر إن الإحجام سببه ثقة الناس في الرئيس ورغبتهم في الاكتفاء به دون الحاجة إلى البرلمان. أما أسوأ ما قرأت فكان ذلك النزوع إلى تقريع المجتمع والتنديد بتقاعسه إلى جانب الادعاء بأن الشباب استسلموا لحروب الجيل الرابع المناهضة للنظام في مصر، أو اتهامهم بقلة الوفاء وانعدام المروءة، لأن الرئيس حرص في أكثر من مناسبة على أن تلتقط له صور وسط الشباب، في حين أنهم لم يردوا له الجميل.حتى إذا كانت تلك آراء أشخاص تحسب عليهم، إلا أنها أصوات ترددت عبر شاشات التلفزيون، وكانت تعبيرا رمزيا عن محاولات الهروب من مواجهة الحقيقة والافتقار إلى شجاعة الاعتراف بأن ثمة رسالة احتجاج في عزوف الناس عن التصويت. وهذا الاحتجاج يجب أن تدرس أسبابه لكي تعالج في الوقت المناسب، ذلك أن نقد الذات هو الخطوة الأولى لتصويب الأخطاء وإنجاح المسيرة، في حين أن الاكتفاء بإلقاء المسؤولية على الآخر واتهامه يؤدي إلى استمرار الأخطاء واستفحالها، الأمر الذي يعد أكبر تهديد للمسيرة.مسألة تكفير أغلب المصريين هي التطبيق العملي للفتوى التي أصدرها عضو مجمع البحوث الإسلامية الذي زعم أن المشاركة في التصويت فريضة دينية تعادل الصلاة. وذهب الرجل، سامحه الله، إلى القول بأن المشاركة أخطر وأهم، لأن إثم تارك الصلاة يرتد عليه وحده، في حين أن إثم الممتنع عن التصويت ينسحب فيه الضرر على المجتمع كافة. ورغم أن الكلام يتعذر أخذه على محمل الجد، حيث ينسب إلى ترزية الفتاوى وليس إلى علماء الأصول، إلا أن خطورته في تداعياته التي غابت عن صاحب الفتوى التلفزيونية فبلغت به الجرأة أو الخفة حدا جعله يساوي بين أحد أركان الإسلام الذي وصفت فيه الصلاة بأنها عماد الدين ومن تركها ترك الدين وبين التصويت في الانتخابات. ومقتضى قوله إن الممتنع عن التصويت عامدا يعد تاركا بدوره للدين وتكفيره في هذه الحالة مستحق. وهو ما يسري على أغلبية الشعب المصري التي قاطعت الانتخابات.لقد وضعتنا الفتوى أمام قياس فاسد لا يجرؤ على القول به من كان له حد أدنى من الإحاطة ببديهيات علوم الدين. ولا تفسير لذلك سوى أن صاحبنا وسَّعها أكثر من اللازم في ركوبه للموجة، وكان حرصه على إرضاء أهل السلطة مقدما على إرضاء دينه وربه.ليست هذه نهاية المطاف بطبيعة الحال، لأن الأهم من الوقوع في الخطأ أن يتعلم المرء منه ويعتبر. لكن ذلك معلق على شرط واحد، هو أن يكون الطرف المعنيّ قابلا للتعلم، وهو السؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا قبل أي سؤال آخر.