16 سبتمبر 2025
تسجيلالخبر أن أحد رؤساء أجهزة السلطة قرر أن يلقن رئيس الجمهورية درساً، وينبهه إلى أنه يخدم القانون والمجتمع ولا يخدم الرئيس. وقبل أن يلتبس الأمر على أحد وتذهب به الظنون بعيداً، فإنني أطمئن الجميع إلى أن «المعجزة» حدثت في الولايات المتحدة وأن طرفيها هما جيمس كومي رئيس المباحث الفيدرالية، الذي هو بطل القصة، أما الثاني فهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. والقصة روتها صحيفة «نيويورك تايمز» التي نشرت يوم ١٦ مايو الحالي تقريرا أشار إلى الدرس الذي لقنه كومي للرئيس ترامب قبل أن يعزله الأخير من منصبه، ليصبح قرار الرئيس نقطة سوداء في سجل المآخذ التي يحاسب عليها الآن. خلاصة القصة كالتالي: بحكم موقعه فإن السيد كومي كان يعرف الكثير عن ترامب، وأراد أن يعرفه حدود وتقاليد التعامل معه خصوصا أنه قادم من خارج السياسة والإدارة. لذلك حرص على أن ينبهه إلى أن ثمة مسافة يتعين الحفاظ عليها بين البيت الأبيض والمباحث الفيدرالية، وبالتالي فليس للرئيس أن يتدخل في عمل المباحث الذي هو مستقل تماما. وليس لفريقه أن يتدخل في التحقيقات التي يجريها أو أن يتابع تفصيلاتها ــ وإذا كان ذلك ضرورياً فليس للرئاسة أن تخاطب المباحث الفيدرالية مباشرة، وإنما يتعين عليها أن تقدم طلباً رسمياً بما تريد إلى وزارة العدل، وهي التي توجهه إلى رئيس المباحث الفيدرالية، وعلى الأخير أو نائبه أن يفحصها جيدا قبل أن يرد على طلب البيت الأبيض بما يراه مناسبا. ذكرت الصحيفة في تقريرها أن ترامب أراد أن يقيم علاقة شخصية مع كومي، وطلب منه أن ينضم إلى فريقه الذي يدين له بالولاء، لكن الرجل حرص طول الوقت على أن تظل العلاقة في إطارها الرسمي وليس الشخصي، لتظل المسافة قائمة بين البيت الأبيض والمباحث الفيدرالية، بحيث يتحرك كل طرف في مجاله دون اتصال أو مساس بالآخر. في هذا السياق روت الصحيفة قصة اللقاء بين الرجلين بعد تنصيب ترامب رسمياً رئيساً للولايات المتحدة. ذلك أن الرئيس أقام حفلاً لممثلي الأجهزة الأمنية الذين أشرفوا على ترتيب أمر حفل التنصيب. وكان جيمس كومي بينهم. وجد الرجل نفسه مضطراً لحضور الحفل، إلا أنه وقف بعيداً كي يحتفظ بالمسافة بينه وبين الرئيس، بل وحاول أن يختبئ وراء إحدى الستائر في القاعة. ولأن قامته طويلة بأكثر مما ينبغي (طوله متران و٣ سنتيمترات) فقد لمحه ترامب ودعاه كي يصافحه فلم يجد مفراً من التوجه إليه. ولأن اللقاء كان مثيراً للانتباه. فإن الصحيفة أرفقت تسجيلاً مصوراً له، ظهر فيه كومي وهو يمد يده الطويلة لكي يصافح الرئيس، ولكن الأخير جذبه نحوه لكي يحتضنه، فاضطر لأن يقبله على وجنته ثم يعود إلى مكانه مسرعاً. ولم يفوِّت الرجل المشهد، لأنه ما إن غادر الحفل وركب سيارته حتى دوَّن تفاصيل ما جرى فيه وانطباعاته عنه. ثم سلم ما دونه إلى أحد مساعديه لتحتفظ المباحث الفيدرالية بسجل لما جرى. خصوصا أنه اعتاد أن يسجل على الورق تفصيليا كل اتصالات الرئيس ترامب معه. وهذه الأوراق التي احتفظت بها المباحث الفيدرالية، محل تحقيق الآن ضمن الجهد الذي يبذل لتقييم أداء الرئيس الأمريكي. (في أحد تلك الاتصالات طلب ترامب من جيمس كومي وقف التحقيقات التي تجريها المباحث الفيدرالية مع مايكل فلين مستشاره للأمن القومي (الذي أقيل لاحقا)، وهو ما لم يستجب له الرجل بطبيعة الحال). الحديث الذي نحن بصدده ليس نموذجاً للفصل بين السلطات الذي بات أمراً مفروغاً منه، ولكنه نموذج لاحترام القانون والفصل بين الاختصاصات داخل السلطة الواحدة. وهو ما يبتعد بمسافة ضوئية عن الواقع العربي الذي نعيشه بحيث صار الفصل بين السلطات فيه حلماً بعيد المنال وتم اختزال الدولة في شخص الزعيم، بحيث ما عادت لدينا مؤسسات مستقلة، بل ولا أوطان مستقلة في حالات عديدة.