19 سبتمبر 2025

تسجيل

إعلاميون ونشطاء

21 مايو 2014

على الهواء انهالت المذيعة على الفتى عبدالله عاصم تقريعا وتنديدا وتجريحا، لأن المخترع الصغير آثر البقاء في أمريكا، بعد ما أمضى في الحبس 15 يوما وسمح له بالسفر بعد ذلك، ثم بعث إلى الجميع برسالة على موقعه الإلكتروني قال فيها إنه يخشى في حال عودته أن يتعرض للاعتقال مرة أخرى، وأن يقضي وراء جدرانه «سنوات بلا محاكمة أو يموت بلا ثمن». كان البرنامج التلفزيوني أحد المنابر التي تبنت قضيته منضمة في ذلك إلى الأصوات المصرية التي دافعت عن الفتى، بعدما منع من السفر، الأمر الذي كاد يحرمه من المشاركة في مسابقة «انتل» العالمية التي تقام للمخترعين في كاليفورنيا. وكان قد وقع عليه الاختيار لتمثيل مصر في تلك المسابقة بعدما اخترع نظارة تساعد مرضى الشلل الرباعي في التواصل مع الآخرين. نجحت مساعي رفع الحظر عنه، وبعدما شارك في مؤتمر كاليفورنيا، أعلن أنه لن يعود إلى مصر، وذكر أنه ليس سعيدا بذلك لأنه كان يريد أن يعيش وسط أسرته في أسيوط، ولكنه اختار أن يبقى في الولايات المتحدة للسبب الذي ذكرته توًا. في البرنامج المسائي الذي جرى بثه مساء يوم الأحد 19/5 أبلغتنا المذيعة بالخبر، ثم صبت جام غضبها على الفتى، فاتهمته بالنذالة، وقالت إنه بلا مبدأ وإن أهله لم يحسنوا تربيته، واستخدمت مصطلحا مخففا في ذمه حين قالت له: في ستين سلامة والأصل الدارج أنها ستين «داهية»، وعيرته بأنه بقراره اختار أن ينضم إلى الخونة والعملاء. ولم يفت المذيعة أن تعطينا درسا في الأخلاق والوطنية والانتماء، مضيفة أن برنامجها حين تضامن مع حقه في السفر فإن ذلك كان انطلاقا من موقف مبدئي أخلاقي ومن موقف وطني أيضا، لأنها دفعت إلى ذلك من أجل مصر فقط. (ملحوظة على المهمش وزير التربية والتعليم الدكتور محمود أبوالنصر كان أكثر مسؤولية وتهذيبا، حين وجه رسالة إلى الفتى دعاه فيها إلى العودة إلى الوطن الذي سوف يحتضنه ويرعى عبقريته ــ المصري اليوم 20/5). المشهد يثير أكثر من ملاحظة، بعضها يتعلق بموقف الفتى عبدالله واختياره، والبعض الآخر يتعلق بموقف المذيعة الذي يعكس حالة تلبس آخرين من أمثالها الذين تحولوا من مذيعين يمارسون مهنة الإعلام إلى «نشطاء» يعبرون عن التحيزات السياسية (الموالية لسياسة الحكومة بطبيعة الحال). لا يكتفون بإحاطة الناس علما بما يجري، وإنما يعمدون إلى إملاء آرائهم على الناس ومحاضرتهم فيما ينبغي أن يجري. وهم بذلك لا يتركون للناس فرصة التفكير والاختيار وإنما يصادرون ذلك الحق ويفرضون عليهم اختيارهم أو تحيزاتهم الخاصة. لن أتوقف طويلا عند موقف المخترع الصغير، رغم أن تصرفه يستحق المناقشة، على الأقل من زاوية شعوره بالخوف من الاعتقال وخشيته من أن يعتقل بلا محاكمة وأن يموت بلا ثمن على حد تعبيره، وهو الانطباع الذي خرج به من تجربته التي تعرض فيها للاعتقال دون أن يرتكب ذنبا جناه، وهو ما تعرض له كثيرون من ضحايا الاعتقالات العشوائية التي نطالع قصصها بين الحين والآخر على مواقع التواصل الاجتماعي. يعنيني في الوقت الراهن ظاهرة المذيعين ومقدمي البرامج التلفزيونية الذين تحولوا إلى نشطاء، وهي الظاهرة التي تحولت إلى وباء أصاب الأغلبية الساحقة منهم، وإذا كانت الإعلامية سابقة الذكر قد أهانت الفتى عبدالله عاصم فإن ذلك مجرد مثل صغير لأن خطاب «الردح» الإعلامي صار لغة تستخدم من جانب الأغلبية الساحقة في مواجهة جميع المخالفين، سواء كانوا رموزا سياسية أو ثقافية أو زعماء ورؤساء دول. ولم تنج بعض الشعوب من ذلك (حدث ذلك مع الجزائريين والفلسطينيين). في تحليل الظاهرة تبرز عوامل عدة، منها الفراغ السياسي وغياب المؤسسات التي تدير المجتمع، الأمر الذي حول التلفزيون إلى قوة تأثير هائلة في المجتمع. وتلك من سمات زمن الفُرجة الذي أصبحت الصورة في ظله تلعب دورا مهما في تشكيل الإدراك، خصوصا في ظل توفر عناصر الإبهار والجاذبية التي يتفنن فيها المخرجون. وهو ما حفر مكانة خاصة لنجوم التلفزيون الذين باتوا يدخلون كل بيت ويؤثرون في إدراك وسلوك الكبار والصغار. وهذا الاغترار بالقوة حين حدث في أجواء الفراغ فإنه حول مقدمي البرامج إلى قادة سياسيين، فلم يعودوا يكتفون بتنوير الرأي العام منذ أدركوا أن بمقدورهم توجيه وصناعة الرأي العام. وحين دخل القطاع الخاص إلى الساحة وأصبح الرواج والربح على رأس أولوياته تحولت المهنة إلى تجارة، وفقدت ضوابطها وشروطها أمام الرغبة في الرواج بأي ثمن. فانفتحت الأبواب على مصارعها لكل من يحسن الكلام ويجيد ركوب الموجة ويتفوق في التهليل والتنديد، ولأن الإعلام التلفزيوني ليس له صاحب بعد دخول رأس المال الخاص، فإن المهنة انقرضت وصارت نهبا لتجاذبات الهواة وأصحاب المصالح. وإذ تزامن ذلك مع تدهور مستوى الحوار وتراجع لغته وآدابه، فقد صار الردح لغة مقبولة ومعتمدة ليس فقط عبر شاشات التلفزيون ولكن على صفحات الصحف أيضا. ولأنه لا يصح إلا الصحيح في النهاية، فإنني أحاول إقناع نفسي بأنها سحابة سوف تنقشع يوما ما، لكن السؤال هو: متى؟