16 سبتمبر 2025

تسجيل

الحضور له شروط نفتقدها

20 سبتمبر 2016

لن نستطيع أن نثبت حضورًا في التاريخ إلا إذا استعدنا أسباب القوة وتخلصنا من إدمان البكائيات والعنتريات. (١)عشية سفر الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى نيويورك، صدر حكم محكمة جنايات القاهرة بتأييد مصادرة أموال مجموعة من أهم النشطاء المصريين المدافعين عن الحقوق والحريات. وهو الخبر الذي عمته منظمة العفو الدولية وانتقده وأدانه الاتحاد الأوروبي، في اليوم ذاته تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي نتائج دراسة مؤشر الديمقراطية التي أجريت في جامعة كلاجنفورت النمساوية على ١١٣ دولة في العالم، جاءت مصر في ذيلها، إذ احتلت الترتيب ١٠٨، متقدمة قليلًا على سوريا (١١٢) واليمن في آخر القائمة (١1٣). أما في العالم العربي فقد جاءت تونس في المركز الأول، في حين احتلت مصر المركز السادس (بعد الكويت ولبنان والمغرب والبحرين).الأزمة الاقتصادية تكمل صورة المشهد المصري، ومن أبرز ملامحها اللغط المثار حول جدوى ومخاطر اقتراض عدة مليارات من صندوق النقد الدولي، والإشارات إلى ودائع قادمة من بعض دول الخليج، (جريدة «الشروق» تحدثت في عدد ١٨/٩ عن بنوك حكومية مصرية تتفاوض مع مؤسسات عالمية وخليجية للحصول على قروض دولارية. وأبرزت «المصري اليوم» في ١٧/٩ أن «ملف القروض» على أجندة السيسي في نيويورك).بشكل موازٍ سلطت بعض صحف القاهرة في يوم سفر الرئيس الأضواء على وجه آخر للمشهد ظهرت فيه مصر في دور «الضحية»، التي تستهدفها حملات التآمر والحصار الخارجي، ذلك أن جريدة «الأهرام» نشرت تقريرًا على الصفحة الأولى تحدث عن تفاصيل خطة فرض حصار على مصر. وورد فيه النص التالي: اشتدت في الأيام الأخيرة معدلات التقارير الدولية التي تتناول الشأن المصري في عدد من الصحف والمجلات المعروفة في الغرب، وجاءت في معظمها تحمل لغة عنيفة، وتنقل عن مصادر تناصب السلطة في مصر العداء، بهدف تشويه صدره الحكم وإشغال الحكومة المصرية بملاحقة الشائعات لتحقيق أهداف أخرى.هذا الذي أجملته الأهرام يوم ١٨/٩ فصلت فيه جريدة «الوطن» قبل ذلك بثلاثة أيام. إذ نشرت تقريرًا ورد فيه ما نصه: وجهت ٦ صحف ووسائل إعلام عالمية، خلال يومين متتاليين هجومًا متزامنًا على نظام الحكم في مصر، وزعمت أنه تسبب في تدهور حالة الاقتصاد والوضع السياسي في البلاد، وقالت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، إن الحكومة لجأت خلال الأعوام الثلاثة الماضية إلى بناء عشرات السجون لاستيعاب كميات كبيرة من المعتقلين فيما قالت صحيفة «إندبندنت» البريطانية: إن «الرئيس السيسي أعلن أن عام ٢٠١٦ هو عام الشباب، فتحول إلى عام سجن واعتقال الشباب».وقالت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية في تحليل كتبه زافي بارئيل: «عند البحث عن أسباب الأزمة الاقتصادية في مصر فلا يمكن إغفال وجود وحش عملاق ومخيف يتحكم في مقاليد الاقتصاد، وهو الجيش الذي بات يتحكم في الاقتصاد»، وادعت صحيفة «هافينجتون بوست» في نسختها البريطانية، أن «بريطانيا وضعت نفسها في موقف مقلق بسبب علاقاتها الوثيقة مع النظام العسكري في مصر»، كما انتقدت شبكة «ايه بي سي نيوز» الأسترالية دعوة رئيس الوزراء الأسترالي مالكوم ترنبول، الرئيس السيسي إلى زيارة «سيدني» بسبب ما وصفته بانتهاك الحريات.(٢)ما سبق يمكن قراءته من زوايا عدة، أهمها في السياق الذي نحن بصدده ما يتعلق بسمعة مصر في الخارج، وصورتها التي سبقت زيارة الرئيس لنيويورك. وهو ما ينعكس على وزنها وما تملكه من أوراق في مخاطبة المجتمع الدولي. ومصر في هذه الحالة لا تمثل نفسها فقط لكنها تعد أيضًا واجهة للعالم العربي، على الأقل بحكم ثقلها التاريخي ووضعها الجغرافي وحجمها السكاني، علما بأن الأوزان لا تحددها الخطب الرنانة ولا عبارات التمجيد والنفخ في الذات، لكنها تقاس بمعايير قوتها على أرض الواقع، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية. ونفوذ أي دولة وحضورها في مجرى التاريخ المعاصر مرهون بقدر نصيبها من تلك المعايير.لسنا نبالغ إذا قلنا إن الوضع المصري المتأزم سياسيًا واقتصاديًا يعكس بدرجة أو أخرى حال الأمة العربية، الذي يشبه في تدهوره الراهن حال الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن العشرين، حين تهاوت أركانها وتحللت حتى طمع فيها الطامعون من كل حدب، البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون واليونانيون والأمريكان.الفرق الأساسي بين ملابسات تفسخ الإمبراطورية العثمانية وانهيار النظام العربي، أن العثمانيين ظلوا طوال ستة قرون مصدر قلق لأوروبا، ولذلك تكالب عليهم الطامعون حين حل بها الضعف فمزقوا أطرافها، ووصلوا بقواتهم إلى الأستانة ذاتها، ولولا تدخل الجيش التركي وصموده لاختفت الدولة ذاتها. أما في العالم العربي فإنه لم يعد يهدد أحدًا أو يزعجه في الوقت الراهن، بل إن إسرائيل التي تعد أعدى أعدائه لم تعد قلقة من دول المنطقة (الحاخام تيربن ارتسي أحد الحاخامات الشرقيين البارزين ألقى موعظة في كنيسة بالقدس المحتلة يوم السبت ١٧/٩ دعا فيها بطول العمر لبعض الزعماء العرب. وزميله الحاخام يوئيل بن نون نشر مقالة في صحيفة «ميكور ريشون» في ٣/٩ وصف فيها التغير الذي حدث في مصر بأنه «أهم معجزة حدثت لإسرائيل»). وإذا كان بعض المتطرفين العرب يزعجون أوروبا، فمعروف أنهم يمثلون أنفسهم وليس دولهم.في أعقاب الحرب العالمية الأولى اقتسم الأوروبيون تركة «الرجل المريض» في اتفاقية سايكس بيكو عام ١٩١٦، أما العالم العربي في الوقت الراهن فإن تحلله الداخلي لم يكن بفعل قوى الخارج، لأن الوهن الذي أصاب الأمة كان نتيجة للتفاعلات المحلية والتدخلات الإقليمية، الأمر الذي وفر على القوى الكبرى عناء تدخلها. وإذا كان تقسيم الإمبراطورية قد تم بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فإن تمزق العالم العربي وانفراط عقده حدث بعد خروج مصر من الصف العربي وتوقيعها اتفاقية الصلح مع إسرائيل في عام ١٩٧٩. فمصر تراجعت أسهمها على النحو الذي رأيت. والسودان صار بلدين وفلسطين غرقت في وحل التنسيق الأمني مع إسرائيل والعراق دمر وكذلك سوريا وليبيا واليمن. وانتهى الأمر بأن صار مستقبل العالم العربي بيد القوى الأخرى، أمريكا وروسيا وإيران وإسرائيل، يشهد بذلك الاتفاق الأخير بين موسكو وواشنطن حول سوريا، والدور الذي يقوم به المبعوثون الدوليون في اليمن وليبيا. في الوقت ذاته وجدنا نفرًا من الخبراء والسياسيين الأجانب يتسلون بإعادة رسم الخرائط الجديدة للعالم العربي. فسمعنا عن مشروع الشرق الأوسط الجديد ومشروع الفوضى الخلاقة، وصولًا إلى الخرائط التي أعدها البعض ونشرتها الصحف الغربية (نيويورك تايمز) التي رشحت ٥ دول عربية للتقسيم بحيث تصبح ١٤ دويلة صغيرة.(٣)الخلاصة أن العالم العربي -ومصر على رأسه- فقد أهميته الإستراتيجية، ليس فقط بسبب تمزقه وضعفه السياسي واستقواء أنظمته على شعوبها، ولكن أيضًا لأن العالم الغربي أصبح متجهًا مع باراك أوباما باتجاه الشرق الأقصى، حيث النمو الاقتصادي الهائل والسيولة النقدية الكبيرة. علما بأن العرب بما فيهم دول الثراء النفطي لا يمثلون أكثر من نسبة تتراوح بين واحد و٢ في المائة من الاقتصاد العالمي. ويبقى أن كل ما يريده العالم الغربي من العالم العربي ثلاثة أمور هي: مكافحة الإرهاب ومسايرة إسرائيل واستمرار تدفق النفط. وهو ما يسهل تحقيقه دون مؤامرات ولا مغامرات إعادة ترسيم حدود قد تكلف الكثير.الفقرة السابقة اقتبستها من مقالة للكاتب السوري ناصر الرباط نشرتها صحيفة «الحياة اللندنية» في ١٦/٩ الحالي. وقد نوه فيها إلى أننا «مازلنا نعيش عصر لعبة الأمم، رغم أن العالم تجاوزها، ورغم أننا بدأنا نفقد الكثير من مقوماتنا كأمم لتلعب لعبتهم (وها نحن) نرى الأمم الأخرى في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية قد نفضت عن نفسها الشعور بالغبن التاريخي ونمطية صورة الضحية، والاحتكام إلى نظرية المؤامرة في تفسير أخطائها ومطباتها ومشكلاتها وهزائمها. وأخذت واقعها وسياساتها ومصالحها واقتصاداتها ومخططاتها المستقبلية بيدها. أما العالم العربي فلا يزال مكبلًا بكل تلك القيود المؤامراتية الصحيح منها والمتخيل، ومحبطين نفسيًا وسياسيًا واجتماعيًا. لذلك لا مفر من الاعتراف بأنه بصورته تلك أصبح مفتقدًا لشروط النهضة والانخراط في التاريخ.(٤)أقرأ في مصر هذه الأيام كتابات تتوزع بين البكائيات والعنتريات. الأولى لا تكف عن النواح والتنديد بالمؤامرات التي تحاك ضد نظامها في الخارج، وهي التي تتركز بالدرجة الأولى على أنشطة المعارضين المصريين. وفي المقدمة منهم التنظيم الدولي للإخوان، الذي يصور باعتباره قوة أخطبوطية عظمى تحرك سياسيين وإعلاميين ومؤسسات في أوروبا وأمريكا، وتؤلبهم على مصر. وقد رأينا نماذج من التقارير التي يوزعها الإعلام الأمني تروج لذلك الادعاء، معتبرة كل من انتقد شيئًا في مصر كارها ومتآمرًا ومستهدفًا كرامة الجيش وإسقاط الدولة. أما العنتريات فهي تحلق في الماضي متحدثة عن دور مصر القيادي في الإقليم (الذي تخلت عنه)، وعن قدرتها الكامنة التي تمكنها من تقديم المبادرات التي تعيد الانطلاق في الداخل والاستقرار والأمان إلى ربوع الأمة العربية، من فلسطين إلى سوريا مرورًا باليمن وليبيا. والطرفان، مروجو البكائيات والعنتريات، يسوفون الأوهام ويوزعون المخدرات السياسية التي تغيب العقل تارة وتضلله وتصرفه عن التفكير في السعي لامتلاك أسباب القوة تارة أخرى.أثارت انتباهي في هذا الصدد فقرة وردت في ختام التقرير الأمني الذي سبقت الإشارة إليه ونشرته جريدة الأهرام عن خطة حصار مصر، إذ جاء فيها ما نصه: إن القوى الخارجية لها مخاوفها من تثبيت القيادة السياسية المصرية مكانتها في منطقة الشرق الأوسط، (ذلك أن) تلك القوى تخشى من عودة الحالة الناصرية إلى الساحة العربية ممثلة في القيادة المصرية الراهنة. وهي فقرة أسجلها بلا تعليق، لأن حصيلتي من اللغة الفصحى لا تمكن من أن توفيها حقها.