15 سبتمبر 2025
تسجيلشممت رائحة غير مريحة في كلام رئيس الأركان الفريق سامي عنان الذي أعلن فيه أن «مدنية الدولة أمن قومي لا مساومة عليه»، وهو الإعلان الذي تحول إلى عنوان رئيسي للصفحات الأولى في صحف الخميس الماضي 18/8. ذلك أن الطريقة التي أبرز بها كلامه ذكرتني بتصريحات رؤساء الأركان في تركيا، الذين اعتبروا يوما ما أنهم حراس النظام العلماني هناك، وظل كل واحد منهم حين يريد أن يحذر القوى السياسية، وقبل أن يقوم بانقلابه أن علمانية الدولة مسألة أمن قومي ولا مساواة عليها. وهي المرحلة التي عانت منها تركيا كثيرا وتجاوزتها أخيرا، حتى اتجهت الحكومة في الوقت الراهن إلى استصدار تشريع يمنع القوات المسلحة من إصدار بيانات سياسية. أرجح ألا يكون الرجل قد قصد المعنى الذي أشير إليه، ومن ثم نظلمه إذا حملنا كلامه بأكثر مما يحتمل، لكنني بصراحة لم أفهم لماذا أقحم الفريق عنان نفسه في الموضوع أصلا، خصوصا أن عنوان الدولة المدنية ملتبس وحمال أوجه. ناهيك عن أنه لا أصل له في علوم السياسة أو الاجتماع. وإنما هو «اختراع مصري» كما وصفه الدكتور عمر الشوبكي في أحد الحوارات، وإن لم يقل إنه حيلة لجأ إليها بعض المثقفين للتمويه والتستر على فكرة الدولة العلمانية سيئة السمعة في المجتمع المصري. وفي حدود علمي فإن واحدا فقط منهم هو الذي جهر برأيه الصريح في الموضوع، وقال في مقالة نشرتها له الأهرام إن المراد هو دولة علمانية وليست مدنية. المتخصصون في علوم السياسة والاجتماع يتحدثون عن مجتمع مدني وليس دولة مدنية، وثمة كتابات عدة صدرت حول الموضوع عن مؤسسة الأهرام وكذلك الشبكة العربية للمنظمات الأهلية التي كان من بين مطبوعاتها التي عرفت المصطلح بدقة «الموسوعة العربية للمجتمع المدني». وكنت قبل نحو عشرين عاما قد نشرت في الأهرام مقالة تحت عنوان «دفاع عن المجتمع المدني». وضمنتها في وقت لاحق كتابا لي صدر بعنوان: للإسلام والديمقراطية. ما أريد أن أقوله إن مصطلح الدولة المدنية الذي اعتبره الفريق عنان قضية أمن قومي، ليس سوى ملعوب أطلقه أولئك النفر من المثقفين ووظفوا له تعبيرا غامضا له جاذبيته ويتعذر الاعتراض عليه. ولا أظن أن رئيس الأركان أراد أن يكون شريكا في اللعبة، وأن يصطف إلى جانب ذلك الفريق المهجوس بمخاطر ما هو ديني، فأراد أن يشهر في وجهه «فيتو» المدني، في تلاعب بالألفاظ فيه من المكر بأكثر مما فيه من الرصانة والأكاديمية. قال أحد الأصدقاء ممن يحسنون الظن بالفريق عنان إنه حين تحدث عن الدولة المدنية فإنه كان يقصد نقل السلطة من حكم العسكر إلى الحكم المدني. وهو تأويل ليس عندي ما يؤيده. وإن كنت قد سمعت به ذات مرة من الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. ذلك حين سمع بمصطلح المجتمع المدني الذي بدأت وسائل الإعلام الحديث عنه في الثمانينيات فسألني عن معناه. وما إذا كان المقصود به المدني في مواجهة العسكري. أم المدني نسبة إلى المدينة المنورة التي نزلت فيها بعض سور القرآن فصارت مدنية، في مقابل سور أخرى مكية (من مكة). أم أنه استخدام للمصطلح القانوني الذي يميز بين ما هو مدني وجنائي في القضايا. وقتذاك قلت له إن المصطلح في مبتدئه أريد به الإشارة إلى دور أهل المدن في المجتمع (البورجوازية) في مواجهة السلطان المطلق للملوك والأمراء. الذي كان مخيما على أوروبا في القرن السابع عشر. وهي الأجواء التي دفعت الفيلسوف الإنجليزي جون لوك إلى إصدار كتابه «الحكومة المدنية» في عام 1690م. طوال العشرين سنة الأخيرة على الأقل لم يستخدم المدني لتحدي ما هو ديني أو معارضته، وفي مقالي بالأهرام الذي سبقت الإشارة إليه.فإنني دافعت عن المجتمع المدني وقلت إنه ليس مقطوع الصلة بالديني. حيث مجال حركته ينصب على ما هو اجتماعي وسياسي، ولا شأن له بالحالة العقيدية. واعتبرت المؤسسات الأهلية التقليدية التي عرفتها الخبرة الإسلامية ضمن مؤسسات المجتمع المدني، وفي المقدمة منها الأوقاف ومؤسسات الزكاة والحسبة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجمعيات الحرفيين والصناع وغيرها. لو أن الفريق عنان تحدث عن ديمقراطية الدولة لكان أكثر موضوعية وإقناعا، خصوصا أن الديمقراطية هي البيئة الطبيعية الحاضنة للمجتمع المدني وبغيرها لا تقوم لذلك المجتمع قائمة. في حين أنه عندما ردد مقولة بعض المثقفين عن الدولة المدنية فإنه دخل في دائرة الشبهات، وظلم نفسه حين وجدناه فجأة وبغير مبرر مصطفا إلى جانب الذين يتلاعبون بالألفاظ ويحاولون مصادرة ما هو ديني ومعارضته بقناع الدولة المدنية، لكنها غلطة الشاطر التي نرجو ألا تتكرر.