18 سبتمبر 2025

تسجيل

الإعلام ظالم ومظلوم

20 مايو 2015

أستغرب كثيرا الهجوم المكثف على الإعلام المصري في الآونة الأخيرة. ووجه الاستغراب لا يتمثل في مبدأ انتقاده وتجريح أدائه، لأنني أتفق كثيرا مع ما قيل بحقه، ولكنه ينصب على تشخيص مشكلته وأزمته، الذي أزعم أنه جاء منقوصا ومبتسرا. ولأن التشخيص كان خطأ فلم يكن مستغربا أن يقع الخطأ في العلاج، لذلك أثار دهشتي أن بعض الناقدين اعتبروا أن حل المشكلة يكمن في إصدار ميثاق شرف إعلامي، أو إنجاز القوانين المنظمة للمهنة أو إحداث آلية لمحاسبة الإعلاميين أو أية إجراءات أخرى لضبط الأداء الإعلامي.لا أختلف مع من يقول بأن لدينا مشكلة في الإعلام. وليس لدي أي اعتراض على المقترحات التنظيمية التي يراد بها الحفاظ على المهنة وحماية العاملين بها، لكن خلافي الوحيد يكمن في اعتبار الإعلام هو المسؤول الأول عن المشكلة أو أنه مصدرها الحقيقي. ذلك أنني أزعم أن مشكلتنا هي في السياسة وليس في الإعلام. الذي هو في حقيقته صدى للسياسة وليس مستقلا عنها. ذلك أن الإعلام إما أن يكون مرآة للمجتمع أو يصبح مرآة للسلطة والسياسة. أعنى أن دوره يختلف باختلاف الحالة الديمقراطية في كل بلد، فإذا كان مجتمع المواطنين هو الذي ينتخب السلطة ويراقبها فالإعلام حينئذ سيكون مرآة له باعتباره الطرف الأقوى في المعادلة. أما إذا كانت السلطة هي الطرف الأقوى الذي يشكل المجتمع ويمارس وصايته عليه من خلال أجهزتها ومؤسساتها التقليدية فالإعلام سيعبر عن تلك الحقيقة تلقائيا.بكلام آخر، فإننا لا نستطيع أن نعزل الإعلام عن البيئة الاجتماعية والسياسية التي يتحرك فيها. فهو لا ينطلق في فراغ ولا يخاطب المطلق. لذلك فقبل أي حديث عن الإعلام في المجتمعات التي لم تتمكن فيها الديمقراطية ــ ونحن منها ــ لابد أن نبدأ بالسؤال عن السياسة.إن كل المهتمين بالإعلام والعاملين في ميادينه المختلفة لا يختلفون على أنه ينتعش ويرتقي في أجواء الحرية والديمقراطية، التي تتفتح فيها آفاق التعبير وتعلو سقوفه. وتحترم فيها كرامة الإنسان وحقوقه. وكل انتقاص من تلك القيم والعناوين ينعكس بالسلب بصورة مباشرة على أداء الإعلام مهنيا وأخلاقيا. لذلك فإن تدهور مستوى الإعلام الذي يشكو منه الجميع إذا أردنا أن نعالجه بشجاعة ونجاعة، فإن السؤال الأول الذي ينبغي أن يدور حوله البحث يجب أن ينصب على حدود الحرية التي يتمتع بها المجتمع الذي يحيط به ويخاطب ناسه.إذا حاولنا تنزيل هذه الخلفية على الواقع في مصر، فسنجد أن وضعا سياسيا جديدا نشأ في البلد في الثالث من يوليو عام ٢٠١٣. ولحسم الصراع السياسي وطي صفحة النظام السابق، فإن الإرهاب صار عنوانا لتلك المواجهة التي وصفت بأنها حرب لا هوادة فيها، أججتها وساعدت على استمرارها التظاهرات التي خرجت في أعقاب التغيير الذي تم. ولأنها «حرب» فإن المواجهة تمت على صعيدين، في الشوارع والجامعات وغيرها وهذه مواجهة تكفلت بها أجهزة الشرطة والقوات المسلحة، كما للإعلام نصيبه في تلك المواجهة، باعتباره الأكثر انتشارا والأقوى تأثيرا، ثم رسالته تصل إلى الكافة بمختلف أطيافهم. وفي غيبة منابر أو مؤسسات تعبر عن المجتمع. فإن الإعلام ظل المنبر الوحيد الذي يخاطب الرأي العام ليل نهار. ولأنه كذلك فقد أريد له أن يظل تعبويا طول الوقت. يستوي في ذلك الإعلام الحكومي أو التابع للقطاع الخاص. ولإنجاز مهمته تلك فإن الإعلام انحاز إلى الرأي الواحد. وأصبح ضائق الصدر بالرأي الآخر، في الوقت ذاته فإنه أصبح في خطابه الأساسي معبرا عن إدارات التوجيه المعنوي الناطقة باسم مؤسسات السلطة بأكثر من تعبيره عن ضمير المجتمع وأشواقه.هذا المسار رتب ثلاث نتائج لها أهميتها البالغة. الأولى أن الرأي الآخر صار منبوذا سياسيا ومقصيا إعلاميا كحد أدنى ومتهما ومطعونا في ولائه ووطنيته كحد أقصى. الثانية أن المهمة التي ألقيت على كاهل الإعلام أفرزت شريحة معينة من الإعلاميين كما استبعدت شريحة أخرى. والأولون الذين تقدموا الصفوف وأصبحوا من أصحاب الحظوة كانوا الأقدر على الانصياع والقيام بدور «البوق» والأكثر جرأة على التشهير بالمخالفين والنيل من كراماتهم. النتيجة الثالثة التي لا تقل خطورة وهي أن الخطاب التعبوي أحدث تشوهات في المجتمع أدت إلى انقسامه وأشاعت في شرائحه المختلفة مشاعر الكراهية والانتقام التي وصلت إلى حد التكفير السياسي لكل صاحب رأي مغاير. وهو ما لم ينج منه الوطنيون المستقلون الذين سعوا إلى رأب التصدعات وتحقيق المصالحة الوطنية. كما لم ينج منه الحقوقيون الذين كرسوا أنفسهم للدفاع عن كرامات المظلومين وإنسانيتهم.الرسالة التعبوية التي أريد للإعلام أن ينهض بها لحسم الصراع السياسي وشيطنة الآخر تحولت إلى عامل طارد لنماذج من الإعلاميين المستقلين الغيورين على بلدهم ومهنتهم. فخرج حمدي قنديل من الحلبة مبكرا، وخرج باسم يوسف ويسري فودة وحافظ الميرازي، وريم ماجد التي منع برنامجها أخيرا وثار لغط حول التي قررت ذلك، ثم سكت اللغط وقيد المنع ضد مجهول! ومع اختفاء هؤلاء الإعلاميين المحترمين اختفى معهم تلقائيا صنف من الضيوف المحترمين أيضا. وحين حدث ذلك تقدمت الصفوف شريحة أخرى من الإعلاميين والضيوف أصبحت شهادة دامغة على تدهور الإعلام وانحطاط مستواه وسببا وجيها لطرد المشاهدين وليس جذبهم.للقضية جوانب أخرى لا ريب، يتصل بعضها بالدور الذي قام به القطاع الخاص في إحداث التدهور. ويتصل البعض الآخر بالحاصل في الإعلام المقروء، وهو ما أرجو أن أناقشه في مرة لاحقة، لكن أكثر ما همَّني في الوقت الراهن أن أدلل على أن الإعلام إذا كان ظالما فهو مظلوم أيضا، وإذا كان قد افترى فهو ضحية ومفترى عليه أيضا.