18 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة معارف وخبرات

20 أبريل 2014

أحد أسباب الخلاف بيني وبين عدد غير قليل من القراء مصدره المعلومات المتوفرة لدى كل طرف. ذلك أنني أستشعر في الرسائل التي أتلقاها من أولئك القراء الذين أعنيهم درجة عالية من الإخلاص والغيرة، تكمن وراءها أزمة كبيرة في الخلفية المعرفية. وتتجلى تلك الأزمة إما في نقص المعلومات وغياب بعضها، أو في تشويهها، وبعض ذلك راجع إلى اختلاف خبرة الأجيال والبعض الأكبر نتاج عمليات غسيل المخ التي تتعرض لها الأجيال الجديدة التي يكتسب بعضها أن لم يكن أغلبها مصادرة المعرفية من وسائل الإعلام، وهذه النقطة الأخيرة مهمة للغاية، وتأثيرها شديد الوضوح في التجربة المصرية، ذلك أن المجتمع المصري خلال الأربعين سنة الأخيرة بوجه أخص هجر السياسة بحيث انكفأ كثيرون على ذواتهم. ربما لأنهم أدركوا أنهم مهمشون ولا دور لهم أو تأثير في صناعة مصيرهم الذي تولته السلطة المحتكرة وصادرته لحسابها. وربما أيضا لأن أعباء الحياة المتزايدة احتلت أولوية لدى الأغلبية، بحيث صار السعي وراء الرزق وتأمين حياة الأسرة والأولاد هو الشاغل الأساسي والمهيمن، أو للسببين معا. هذا الوضع تغير بعد ثورة 25 يناير التي أعادت الوطن إلى أصحابه، وفجرت مشاعر الانتماء لدى الملايين الذين بدوا وكأنهم ولدوا سياسيا من جديد، وهو التحليل الذي سبق أن أشرت إليه، وأوضحت فيه أن تلك القطاعات العريضة من الجماهير حين انتقلت من العزلة إلى المشاركة ومن سلبية الرعية إلى إيجابية المواطنة ومن هوامش السياسة إلى قلب ميادينها فإنها اعتمدت في زادها المعرفي على ما تبثه وسائل الإعلام بالدرجة الأولى. وكان ذلك أوضح ما يكون في السلوك السياسي لما سمي بحزب «الكنبة»، الذي يضم القاعدات في البيوت من النساء والقاعدين على المقاهي من الرجال. وهؤلاء أصبح التلفزيون هو المصدر الأساسي لتشكيل وعيهم وثقافتهم السياسية. ولذلك لم يكن مستغربا أن يميل هؤلاء مع ميل البث التليفزيوني ومع مؤشرات الهوى السياسي للسلطة وللقوى المتحالفة معها التي أصبحت صاحبة اليد الطولى في الساحة الإعلامية.في وقت سابق قدم الرئيس الأسبق أنور السادات نفسه باعتباره رب العائلة المصرية، وكان ذلك تعبيرا ساذجا ومبسطا كاد يلغي فكرة الدولة بمؤسساتها وأجهزتها، ومبدأ الفصل بين سلطاتها. فضلا عن أنه كان استثمارا لمناخ الفراغ السياسي، الذي بدا فيه شخص الزعيم وحده القادر على ملئه، وإزاء استمرار هذا الوضع لعدة سنوات فإننا اكتشفنا في نهاية المطاف أن التليفزيون صار هو رب الأسرة الحقيقي. هو الذي يشكل الإدراك والوعي ويؤثر على الرؤية السياسية والسلوك الاجتماعي.في وقت ليس بعيدا هتفت المظاهرات بسقوط حكم العسكر، وفي الوقت الراهن تحول حكم العسكر إلى مطلب شعبي «وضرورة» وطنية، وخلال الفترة ذاتها تقريبا صوتت الأغلبية في خمسة استحقاقات لصالح الإخوان، وخلال الأشهر الأخيرة خرجت مظاهرات مرددة هتاف «الشعب يريد إعدام الإخوان»، وهذه التحولات طالت عناوين أخرى كثيرة. فمبارك الذي تفجرت الثورة ضد استبداده وفساد نظامه طوال ثلاثين سنة تمت تبرئته وصار قائدا وطنيا، والداخلية التي كانت سوط الاستبداد الذي أذل المصريين وعذبهم والتي قتلت ألفا من شبابهم إبان الثورة تمت تبرئتها وصارت اليد التي تسهر على حماية المواطنين وتؤمنهم من غوائل الإرهاب والغدر. وإسرائيل صارت حليفا والفلسطينيون أعداء يهددون استقرار مصر ويتطلعون للتمدد في سيناء. والجماعة الوطنية التي ظلت تزهو بتماسكها وتدافع عن وشائجها صارت شعبين لا يطيق كل منهما الآخر، والمقاومة التي اعتبرناها رمزا للعزة والكبرياء صارت تهمة وإرهابا، بل إن التظاهرات التي أسقطت نظام مبارك والتي تم احتضانها والتباهي بإنجازها حين أسقطت نظام الإخوان أصبحت محظورة ومجرمة بالقانون، وحرمة الجامعات التي ناضل كثيرون دفاعا عن استقلالها حتى نجحوا في إبعاد الشرطة عنها بحكم قضائي تاريخي، لم تجد من يدافع عنها حين انتهكت وأصبحت الشرطة تعسكر داخل الحرم الجامعي برضا وبطلب بعض العمداء أحيانا.نماذج اختلاط الإدارات واحتلال المفاهيم عديدة ولا حصر لها، حتى وجدنا قبولا وتبريرا من جانب البعض للحكم بإعدام 528 شخصا لاتهام بقتل ضابط شرطة والحكم بالسجن عشر سنوات فقط لضابط أدين في قتل 37 شخصا حرقا، وشاعت حالة نقص المناعة المعرفية بحيث وجدنا أجيالا لا تعرف من اغتصب فلسطين وصدقت أن أبناءها باعوا أراضيها للصهاينة، ولا تعرف أن الفلسطينيين رفضوا اقتراحا لعبدالناصر للتوطين في سيناء. ولا تعرف من حارب الاحتلال الإنجليزي في قناة السويس، ومن هم الوطنيون والخونة، أو الإرهابيون والدعاة، ومن هم التكفيريون والوسطيون.إلى جانب الأهواء السياسية التي وظفت وسائل الإعلام لإفساد الوعي وتشويه الذاكرة فإن نفرا غير قليل من المثقفين والنخب سايروا الركب وتقدموه أحيانا، إذ انتهزوا الفرصة المواتية لتصفية حساباتهم التاريخية والتعبير عن خصوماتهم الفكرية. ومنهم أناس كانوا محترمين طوال الوقت، ولكن الأهواء والغوايات أفقدتهم توازنهم حتى كشفوا عن وجوه لم تكن مرئية من قبل. وللأسف فإن إعصار الإفساد والتشويه ملأ الأجواء في مصر بالسموم التي تحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير لإزالة آثارها. مع ذلك فإننا لم نفقد الأمل في وعى الشباب الذي لم يتلوث وظل محتفظا بنقائه. فضلا عن أننا لا نعرف إعصارا استمر طول الوقت، حيث لابد أن تكون له يوما ما نهاية بحيث يصبح السؤال منصبا على قدرة الأسوياء على الصبر والصمود.