16 سبتمبر 2025

تسجيل

فهمونا يا جماعة

20 فبراير 2016

أراهن على أن يكون أحد في بر مصر فهم شيئا من الحاصل في ملف سد النهضة، ذلك أن المفاوضات حول الموضوع أصبحت شديدة الشبه بالحاصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالحديث عن التفاهمات يتردد في وسائل الإعلام والاجتماعات تعقد وتنفض ثم تؤجل، في حين يستمر تنفيذ المخططات على الأرض دون أي تغيير. أعني أنهما يشتركان في فرض سياسة الأمر الواقع، ويعتبران المفاوضات مناورات تستهدف كسب الوقت مع الإبقاء على باب التمنيات والأوهام مفتوحا. والفرق بين الاثنين يتمثل في المدى الذي تستغرقه تلك المناورات، فإذا كانت إسرائيل مستعدة للاستمرار في المفاوضات لعشر سنوات أو أكثر، كما قال رئيس حكومتها يوما ما، فإن إثيوبيا تريد كسب الوقت حتى الانتهاء من بناء السد وافتتاحه رسميا في صيف العام المقبل (٢٠١٧).حتى بداية الأسبوع الحالي كانت أخبار أزمة سد النهضة لا تخرج عن ثلاثة أمور: الأول أن المفاوضات متعثرة وهناك دائما ذريعة لتأجيلها. الثاني أن وزير الري المصري قدم تقريرا إلى الرئيس السيسي حول حصيلة الجولة العاشرة من المفاوضات التي عقدت بالخرطوم. الثالث أن وزير المياه الإثيوبي صرح للإذاعة البريطانية (بي بي سي) بأن البناء لن يتوقف تحت أي ظرف وسيتم افتتاح المشروع في موعده المقرر.هذه الأخبار بدت محيرة ومثيرة للقلق، سواء لأنها حملت إلينا رسالة التعثر والمراوغة، أو لأنها بدت غامضة ومتكتمة لنتائج اجتماعات الخرطوم الأخيرة بين الوزراء الذين يمثلون الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا)، فما حدث في تلك الاجتماعات وضع بين يدي رئيس الجمهورية. أما الرأي العام الذي سيدفع الأثمان الباهظة التي ستترتب على استكمال المشروع والنقص المتوقع في حصة مصر من المياه فسيظل خارج الصورة. ومن ثم فإن تخوفات المتشائمين ظلت معلقة في الفضاء، فلا تأكدت ليستعد الناس لمواجهتها ولا هي زالت بما يعيد إليهم الاطمئنان والهدوء، ومن المفارقات أن يحدث ذلك في حين يتحدث رئيس الجمهورية عن ضرورة المصارحة، ويبادر هو بنفسه إلى ممارسة تلك المصارحة في أحاديثه عن الأوضاع الاقتصادية والأعباء التي تتحملها الدولة لدعم السلع وإيصالها إلى الناس.حتى إذا كانت تلك المصارحات الأخيرة ضرورية للتمهيد لرفع الأسعار امتثالا لشروط صندوق النقد الدولي واجبة التنفيذ قبل منح القروض، فإن أمرا بخطورة الآثار المترتبة على بناء سد النهضة يستوجب إحاطة المجتمع علما بمجرياته، وهذه الإحاطة ليست فقط إعمالا لحق الناس في المعرفة، ولكنها أيضا إشراك لهم في تحمل المسؤولية خصوصا أنهم سيكونون الضحايا في حال ظهرت الآثار السلبية المترتبة على المشروع.إزاء ذلك فإنه يصبح مستغربا للغاية ألا يصبح الأمر موضوعا للحوار المجتمعي، وأن يغيب عن مناقشات مجلس النواب والأحزاب والنقابات، فضلا عن الخبراء المعنيين بالأمر، وهؤلاء الأخيرون لهم آراؤهم المتباينة التي تسهم في البلبلة وإشاعة القلق.أتصور أن الأمر ليس غائبا عن أجندة الأجهزة المعنية بالأمن القومي، لكن ذلك ليس كافيا، إذ إنه أخطر من أن تنفرد الجهات الأمنية بالتصدي له، وإذ أفهم أن تكون تلك الجهات طرفا في مناقشة الموضوع والتعامل مع خياراته، فإنني لا أرى مصلحة في عدم توسيع الدائرة وإضافة خبراء المياه ورجال القانون الدولي إلى قائمة المشاركين في بحث الملف وتحديد خياراته.أستغرب أيضا ألا يصبح ترشيد استهلاك المياه مطلبا يُدعا إليه الناس ويتشدد فيه القانون، كما أنني لم أفهم لماذا لا توضع تحت أنظار الجميع خبرات الدول الأخرى التي تعاني الشح في المياه للإفادة منها والتعامل بمسؤولية أكبر مع أسوأ الاحتمالات.لا أستبعد أن تكون جهات البحث الحالية قد وضعت تقديرات حددت فيها مراتب الخيارات ألف وباء وجيم، وقد يأتي دور ثقافة المجتمع وعوائده ضمن تلك الخيارات، إلا أن الرأي العام في مصر ينبغي ألا يظل بمعزل عن كل ذلك. على الأقل فيما يتعلق بمسؤولية المجتمع ودوره حين يتعين عليه أن يتعامل مع شح المياه. ذلك أننا لا نملك ترف الانتظار حتى يبدأ تخزين المياه ونصدم بالنتائج الكارثية المترتبة عليها، وللعلم فقط فإن المرحلة الأولى لتشغيل السد تستهدف تخزين ٣٠ مليار متر مكعب من المياه. ويترتب على ذلك أن تفقد مصر مليون فدان من الأرض الزراعية، مقابل كل خمسة مليارات (حجم التخزين الفعلي يصل إلى ٧٤ مليار متر مكعب كحد أدنى) على الأقل فذلك ما صرح به الدكتور نصر علام وزير الري الأسبق. وهو تقدير إذا صح فإنه يطلق صفارات الإنذار ويضيء الأنوار الحمراء بقوة في الفضاء المصري كله، لذلك يظل مستغربا أن تغيب القضية عن قائمة تحديات المرحلة المعلنة، فيكون العام السابق على تشغيل السد هو عام «الشباب»، ولا يشار إلى أزمة سد النهضة في خطاب افتتاح الرئيس السيسي لأول دورة مجلس النواب إذ ليست هناك مصلحة في تجاهل الرأي العام وتركه نهبا للحيرة والقلق، بحيث يصبح خياره الوحيد أن ينزوي مكتئبا وهو يتمتم بكلمات أغنية نجيب الريحاني وليلى مراد في فيلم «غزل البنات» التي تقول: حاسس بمصيبة جيالي (قادمة في الطريق).