18 سبتمبر 2025

تسجيل

الذين لا بواكي لهم

20 يناير 2014

أبرزت الصحف المصرية يوم الجمعة الماضي (17/1) ما وصفته بأنه فضيحة أمريكية جديدة، أعلن عنها سلاح مشاة البحرية (المارينز) وخلاصتها أن أحد المواقع الإلكترونية نشر مجموعة من الصور لمقاتلين عراقيين تم إحراق جثثهم بواسطة جنود أمريكيين، وقد ظهر فيها أحدهم وهو يلقي سائلا قابلا للاشتعال على تلك الجثث. وفي تقرير الفضيحة المنشورة أن الصور التقطت في مدينة الفلوجة العراقية في عام 2004 وأن وزارة الدفاع الأمريكية اهتمت بالأمر وطلبت التحقيق فيه، وتحديد هوية الجنود المتورطين في العملية. أثار انتباهي اهتمام الصحف المصرية بالخبر، ولم أستبعد أن يكون الدافع إلى إبرازه هو استخدام الفضيحة في التنديد بالإدارة الأمريكية لأسباب سياسية لها علاقة بالحملة الإعلامية المصرية عليها التي ذهبت إلى حد اتهامها بالتآمر لاغتيال الفريق عبدالفتاح السيسي، بعدما انكشف ــ في الإعلام المصري وحده! ــ سر العلاقة بين الرئيس أوباما وبين التنظيم الدولي للإخوان. لم يفاجئني إحراق المارينز لجثث المارينز العراقيين، لأن الولايات المتحدة لم تقم كدولة إلا بعد إبادة الهنود الحمر سكانها الأصليين، وما فعلوه مع عناصر المقاومة العراقية هو «عينة» بسيطة تستدعي إلى الأذهان ما فعلوه بحق الهنود الحمر، وجرى توثيقه فيما بعد في دراسات عدة، سبق أن أشرت إلى بعضها. خصوصا كتاب منير العكش «أمريكا والإبادات الجماعية». الاهتمام بالفضيحة الأمريكية التي وقعت منذ نحو عشر سنوات، ذكرني بتجاهل الإعلام المصري لفضيحة قتل 37 مواطنا بريئا اختناقا منذ نحو ستة أشهر، حين نقلوا في سيارة محكمة الإغلاق إلى سجن أبو زعبل وتركوا طوال النهار أمام بوابة السجن، وحين احتجوا ألقيت عليهم قنابل الغاز المسيلة للدموع التي أدت إلى قتلهم. في حين نجا ثمانية فقط من زملائهم. وهي الجريمة التي اتهم أربعة ضباط شرطة بالمسؤولية عن ارتكابها ونظرتها إحدى محاكم الجنح في شهر نوفمبر الماضي، وحين رد المحامون قاضيها لتحيزه فإنه تنحى عن نظرها لاحقا «لاستشعاره الحرج». لم تكن الفضيحة ممثلة في قتل ذلك العدد من الأشخاص فحسب، وإنما كانت في اعتبار الجريمة مجرد جنحة يعاقب مرتكبها بالسجن ثلاث سنوات أو سبع سنوات كحد أقصى. علما بأن طلاب جامعة الأزهر حين حاولوا اقتحام باب مدير الجامعة فإن فعلهم اعتبر جناية، وحكمت محكمة الجنايات على كل واحد منهم بالسجن 17 سنة. ولا وجه للمقارنة لأن الضباط المتهمين أودعوا مكانا غير معلوم يرجح أن يكون مستشفى الشرطة، بما يعني أنهم لا يعاملون كغيرهم من المتهمين، وإنما يظلون تحت رعاية وزارتهم وزملائهم، وثمة لغط في أوساط المحامين حول التلاعب في أوراق التحقيق الذي من شأنه أن يؤدي إلى تبرئة المتهمين وإخلاء سبيلهم في نهاية المطاف، كما حدث في أغلب القضايا التي اتهمت فيها الشرطة بقتل الثوار المتظاهرين. لا غرابة والأمر كذلك في أن تتجاهل وسائل الإعلام قضية السبعة والثلاثين الذين قتلوا اختناقا. بل ربما بدا أن أولئك القتلى أفضل حالا من غيرهم، ممن لم يعد يذكرهم أحد أيضا، ولم تخضع عملية قتلهم لأي تحقيق ولم يشر إلى أسمائهم في أي قضية. وهؤلاء الذين لا ذكر لهم ولا بواكي لهم عددهم 2665 شخصا كما ذكر موقع «ويكي ثورة» الذي وثق أسماءهم (مصادر الإخوان تتحدث عن أكثر من ثلاثة آلاف شخص) وهم ضحايا فض الاعتصامات والتظاهرات التي حدثت بعد عزل الدكتور محمد مرسي. هذا العدد الكبير من الضحايا يفوق أعداد الذين قتلوا جراء استخدام النظام السوري للكيماوي في قصف الغوطة. الذين قدرت مصادر المعارضة عددهم بنحو 1466 شخصا وذكرت المخابرات الأمريكية أن عددهم 1429 قتيلا. وقد تصادف أن وقعت حادثة قتل معتقلي أبو زعبل في نفس شهر أغسطس الذي تم فيه استخدام الكيماوي في قتل السوريين. وهو ما أحدث حينذاك دويا عالميا وصل صداه إلى مجلس الأمن وطرح مسألة التدخل العسكري لإسقاط النظام السوري. أما ما حدث في مصر فلم يرد له أي ذكر، ليس فقط من جانب إعلام السلطة ومصادرها، وإنما أيضا من جانب أغلب منظمات حقوق الإنسان. المدهش في الأمر أن المجتمع قبل هذا الوضع وأقره. وثمة شرائح اعتبرت أن الذين قتلوا يستحقون ذلك المصير، تأثرا بالخطاب الإعلامي الذي لم ير في الإبادة الجسدية الجماعية إجراء مستغربا أو مشينا. بل غدا مجرد الإشارة إليهم مسوغا لإطلاق تهمة الأخونة والتحيز للإرهاب، في إلغاء كامل لكل ما هو إنساني وأخلاقي وفي استحضار مفجع لما هو سياسي وأيديولوجي. وخلط آخرون الأوراق حين اعتبروا أن قتل ذلك العدد الضخم من المعتصمين أو المتظاهرين من قبيل الثأر لقتل الجنود المصريين في سيناء. وكأن الجريمة التي ارتكبها الإرهابيون في سيناء ردت عليها السلطة بقتل ذلك العدد في رابعة والنهضة وفي أماكن أخرى. وكأننا ينبغي أن نحزن لقتل فئة من المصريين، في حين نشمت في قتل آخرين ممن ارتأت السياسة ألا حق لهم في الحياة. إننا بصدد سلسلة من الفضائح التي سيذكرها التاريخ في سجلاته الدموية، وفي هذه الحالة فإن الإدانة التاريخية لن تشمل الذين قتلوا وارتكبوا الجرم فقط، لكنها ستلحق أيضا بكل الذين صمتوا أو برروا ما جرى وبخلوا بمجرد الإشارة إليهم بكلمة حق أو بدمعة حزن.