17 سبتمبر 2025

تسجيل

بلاها برلمان

19 سبتمبر 2015

إذا صح أن قوائم المرشحين للانتخابات تعد برعاية الأجهزة الأمنية، وأن في مقدمة مهام مجلس النواب الجديد تعديل الدستور لتوسيع اختصاصات الرئيس، فبلاها برلمان، حيث أزعم أننا في مصر سنكون بغيره أكثر صدقا ووضوحا، إذ لا نريد برلمانا نقول إنه يعبر عن الشعب في حين أن يعبر عن السلطة. وفي حين نتمناه رافعة ومنبرا للديمقراطية فإنه بالصورة التي يقدم بها الآن سيكون عبئا على الديمقراطية، وإذا كان المفهوم الشائع أن مهمة البرلمان تتلخص في المراقبة والمساءلة والتشريع فأخشى أن نفاجأ به وقد حصر جهده في التصفيق والتهليل.إذا لاحظت أنني بدأت الكلام بالإحالة إلى الإشارات التي تتردد في الفضاء الإعلامي المصري هذه الأيام، وقلت إنه «إذا صح» كذا وكذا، فربما نبهك ذلك إلى أنني أتحدث عن رسائل جرى بثها وأثارت الشكوك والمخاوف، وليس عن حقائق تيقنت منها. ذلك أن رعاية الأجهزة الأمنية للقوائم التي تتصدر المشهد الانتخابي ليست استنتاجا ولا سوء ظن من جانبي، ولكنها مما بات من المعلوم في السياسة بالضرورة، إذ بعدما كثر الكلام عن القوائم ذات الصلة بتلك الأجهزة، حتى قال متحدث باسم حزب النور إنها طلبت منهم تقليل عدد قوائمهم الانتخابية، فلم يعد التساؤل واردا عن عدد القوائم الأمنية، وإنما صار السؤال ينصب على القوائم التي ليست كذلك، والخطورة فيما يشاع في هذا الصدد تتمثل في أنه يمهد لفرض تبعية أعداد كبيرة في البرلمان ــ يفترض أنهم يمثلون الأغلبية ــ للأجهزة الأمنية. وإذا ما حدث ذلك، لا قدر الله، فإننا نصبح إزاء وضع خطر له تداعياته الكارثية من وجهة النظر الديمقراطية. إذ عند الحد الأدنى فإن من شأن ذلك إجهاض الوظائف الأساسية للبرلمان، وضمه إلى أذرع الأجهزة الأمنية، وفي هذه الحالة يصبح الضرر في وجوده أكبر، الأمر الذي يجعل من غيابه وضعا أقل سوءا. وقد تعلمنا من خبرة «الديمقراطيات الشعبية» أن تزييف الديمقراطية أشد خطرا على المجتمع من الاستبداد. فالتزييف يفتح الباب للالتباس والتدليس السياسي، أما الاستبداد الذي يلغي البرلمان فهو موقف صريح يكشف الأمور ويضع المشهد السياسي في إطاره الحقيقي.تؤيد الاقتراح الذي أدعو إليه تلك الحملة المتصاعدة التي بدأت بالدعوة إلى تعديل دستور ٢٠١٤، وتطورت إلى هجائه وتجريحه، واعتباره عقبة تعطل مسيرة الرئيس عبدالفتاح السيسي، في حين أن حملة الاستفتاء على الدستور أقنعتنا بأنه عالج أخطاء سابقيه وجسد أحلام المصريين في العهد الجديد. إلا أنه وبقدرة قادر، خلال أسابيع أو أيام قليلة، أصبح الحلم كابوسا وبعد أن كان التصويت على الدستور تصويتا على السيسي، وجدنا قائل هذا الكلام غير رأيه وأخبرنا بأنه أصبح عقبة في طريق السيسي، بل واكتشف فجأة أن بعض مواده وضعها الإخوان!.كانت البداية تحفظا أبداه الرئيس السيسي في كلمته أمام شباب الجامعات يوم الأحد (١٣/٩) التي قال فيها إن مواد الدستور وضعت بحسن نية وأن الدول لا تبنى بالنوايا الحسنة، ورغم الرأي الذي أبداه الرئيس احتمل تأويلات عدة، إلا أن بعض الأصوات ترجمته باعتباره دعوة إلى تغيير الدستور، وفوجئنا بكتابات هجاء الدستور تظهر في بعض التعليقات، إضافة إلى أن الدعوة صارت شعارا لبعض الكيانات التي تنافست وسائل الإعلام في إلقاء الأضواء عليها. ونقل تصريحات الذين سارعوا إلى ركوب الموجة وأعطونا انطباعا أن مصر بصدد الدخول في حرب ثالثة، الأولى كانت ضد الإرهاب والثانية شنت ضد الفساد. والثالثة ضد دستور حسنى النية، وهي القادمة مع انتخابات مجلس النواب الجديد.بدا المشهد عبثيا لأن أعضاء لجنة الخمسين الذين وضعوا الدستور الجديد تم اختيارهم بعناية شديدة في ضوء معايير قيل لنا إنها ضمنت تمثيل فئات المجتمع وخبراته القانونية والسياسية. ورغم أن مصطلح حسن النية يمكن أن يكون مديحا من الناحية اللغوية، لكنه في معناه الاصطلاحي محمل بمعنى السذاجة ومحدودية التفكير والتقدير. وقد غلَّب الهجاءون وراكبو الموجة المعنى الاصطلاحي، وشكك في مقصدهم أن أغلبهم من وثيقي الصلة بالأجهزة الأمنية التي فهمنا أنها ضيقة الصدر ببعض أحكام الدستور وربما بالدستور ذاته.ذكرني الهجوم على الدستور والغمز في فناه واضعيه بما حدث في اليمن في عام ٤٨، حين فشلت الثورة ضد الإمام أحمد من جانب الأحرار اليمنيين الذين كان وضع دستور لليمن على رأس مطالبهم حينذاك أشاعت بطانة الإمام أنهم يريدون إلغاء شرع الله والاحتكام إلى الدستور. وهو ما أثار غضب الجماهير الذين عمدوا إلى سب الأحرار الذين تم اعتقالهم وشتمهم باعتبارهم «مدَسترين». وهي القصة التي سمعنها من آل الوزير الذين كانوا بين قادة الثورة الذين تعرضوا للسجن والشتم آنذاك.إنني أرجو ألا نصل إلى تجريح وسب أعضاء لجنة الخمسين الذين وضعوا الدستور، وأن كان التحرش اللفظي ببعضهم قد بدأ. الأهم من ذلك ألا يورط البرلمان الجديد في إضعاف الدستور لصالح تقوية كفة السلطة التنفيذية. وإذا صحت الشائعات التي تحدثت عن تشكيل لجنة لذلك الغرض، ضمت أحد ترزية النظام القديم القانونيين، فإن ذلك يعد سببا إضافيا للاستجابة لما دعوت إليه. ذلك أننا في ظل هكذا برلمان نكون قد بدأنا أولى خطواتنا على طريق الندامة.لقد علمنا فقهاء الأصول أنه حين تضيق الخيارات فإن الحكمة تفرض علينا أن نقبل بالضرر الأصغر لكي نتجنب ضررا أكبر. وظني أنه في ظل الأجواء التي أشرت إليها فإن فكرة استبعاد البرلمان وتأجيل الانتخابات لأجل غير مسمى تمثل الضرر الأصغر الذي تقتضي الحكمة أن نقبل به كارهين، حتى إشعار آخر على الأقل.