17 سبتمبر 2025
تسجيللا أعرف من الذي أفتى بأن هيبة مصر تقتضي إقامة حفل أسطوري لإبهار العالم في مناسبة افتتاح تفريعة قناة السويس، لكن الذي أفهمه أن الإسراف والبذخ في هذه المناسبة في الظروف التي تمر بها مصر، ينالان من الهيبة وينطبق عليه المثل القائل بأن كل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. ولا يقولن أحد أن الدولة لن تتكلف شيئا من نفقات الحفل الأسطوري، وإن الشركات وتبرعات المواطنين ستغطي التكاليف التي قدرت بعشرات الملايين من الجنيهات. وتلك حجة تحسب على القائلين لأنها تعني أن الدولة المأزومة تمارس «الفشخرة» من جيوب الآخرين وأنها تشجع القادرين على التنافس في ذلك الباب متجاهلة أن هناك أبوابا أخرى أولى وأنفع، كما أن ذلك يعيد إلى الأذهان صورة الخديوي إسماعيل الذي كان مفلسا بدوره لكنه استدان لكي يقيم حفلا أسطوريا في الافتتاح، حتى تحول البذخ الذي اتسم به الحفل إلى مادة للسخرية منه والتندر على الادعاء الذي مارسه، ولا يزال سفهه مضرب الأمثال حتى الآن. ذلك أنه حين دعا الملوك وأباطرة زمانه لكي يبهرهم فإنه لم يكترث بالورطة التي أوقع مصر فيها. فضلا عن أن السماسرة والديَانة كانوا ينتظرونه لكي يرد إليهم حقوقهم. ومن المفارقات أن الحديث الجاري الآن عن الأسطورة والإبهار في الحفل وحملة الاحتشاد والتعبئة لاستقباله، هي ذاتها التي سبق استخدامها في احتفالات الخديوي إسماعيل. وقد استشعرت غُصة حين قرأت في الصحف المصرية أن الاحتفال المرتقب في السادس من شهر أغسطس المقبل سيدعى لحضوره نحو ستة آلاف شخص، وهو ذات الرقم الذي تتداوله المراجع التاريخية عن ضيوف وحضور احتفال الخديوي إسماعيل.أسهبت المراجع التاريخية في وصف الحفل الذي تابع الخديوي كل تفاصيله، بدءا من سفره بنفسه إلى أوروبا لدعوة ملوكها ورموزها، وانتهاء باستقدام ٥٠٠ طباخ من إيطاليا لإعداد الطعام، وتخصيص ألف شخص لخدمة المدعوين وتقديم الأطعمة والمشروبات إليهم. ومرورا بالأوامر التي أرسلت لمديري المديريات (المحافظات) لكي يوفدوا أعدادا من المصريين الرجال والنساء والأطفال بأزيائهم وأدواتهم البيتية لينتشروا على طول القناة لكي يتعرف الضيوف على وجوه المصريين من الفلاحين والصعايدة والعربان والنوبيين.وقتذاك انتشرت قوات الجيش على ضفاف القناة واصطفت أساطيل الدول التي حملت الضيوف في مرافئ بورسعيد، وفي يوم الاحتفال وصل الخديوي على يخت المحروسة، ليأخذ مكانه على المنصة الفرنسية بين الإمبراطورة أوجيني وإمبراطور النمسا، وعلى منصة مجاورة جلس شيخ الإسلام وبعض شيوخ الأزهر، وعلى المنصة الثالثة جلس رجال الدين المسيحي. وقد قام كل فريق منهم بواجب الدعاء لرعاية الخديوي وتسديد خطاه ونصرته، في حين نصب خيالة بورسعيد على الشاطئ الآسيوي، وجلس المدعوون المصريون تحت المظلات البديعة التي أقيمت على الشاطئ الأفريقي. وقد فرشت الأرض بالسجاجيد الفاخرة، في حين ملأت الزينات سماء المكان. وبعد أن أطلقت المدافع ترحيبا بالضيوف، عزفت الموسيقات فملأت الفضاء بهجة وسرورا، وعند المساء مدت الموائد العامرة لستة آلاف مدعو، حيث قدمت لهم أشهر الأطعمة والأشربة، التي تناولوها على نغمات الموسيقى، إلى أن انتهى الحفل بالألعاب النارية التي ضاعفت من الإبهار والبهجة.تقول مراجع التاريخ إن الخديوي إسماعيل حين تولى السلطة في عام ١٨٦٣ كانت ديون مصر ١١ مليونا و١٦٠ ألف جنيه، وعندما عزل في عام ١٨٧٩ كانت قيمة الديون ١٢٦ مليونا و٣٥٤ ألفا و٣٦٠ جنيها. وهو السفه الذي أراد به لمصر أن تصبح قطعة من أوروبا، التي تعلق بها منذ أمضى سنتين في فرنسا. وبسبب بذخه فإنه أغرق البلاد في الديون التي انتهت بإخضاع مصر للوصاية المالية الغربية وباحتلالها من قبل بريطانيا في عام ١٨٨٢.في حين يعد احتفال الخديوي إسماعيل بشق قناة السويس في عام ١٨٦٩ رمزا للبذخ والفشخرة، فإن احتفال جمال عبدالناصر بتحويل مجرى النيل وإقامة السد العالي في عام ١٩٦٤ رمزا للأداء الرصين والمحتشم. فالخديوي خاطب العالم بلغة الإبهار، في حين أن عبدالناصر خاطبه بلغة الإنجاز. وضيوف الأول كانوا وجهاء أوروبا أما ضيوف الثاني فقد كانوا من الأعوان ورفاق النضال (خروشوف بن بيللا عبدالسلام عارف) إلى جانب بعض القادة الأفارقة. الخديوي تعامل مع الأوروبيين من موقع المدين التابع والمتيَّم، في حين أن عبدالناصر تعامل مع ضيوفه من موقع الشريك والند. ثم إن الشعب المصري كان مجرد «كومبارس» في خلفية افتتاح قناة السويس، لكنه كان له إسهامه في البطولة في فيلم السد العالي.إن أمامنا نموذجين إذن، أن نحتذي حذو الخديوي أو نسلك درب عبدالناصر، رغم أن استكمال حفر التفريعة أكثر تواضعا من شق القناة أو إقامة السد. وأخشى أن يكون ذلك الشعور هو الذي يدفع المعنيين بالأمر في مصر إلى المبالغة في تصوير الحدث سواء لإبهار الأجانب أو لإقناع المصريين بأن بلدهم ولد من جديد. وللإنصاف فإن المبالغة إذا كانت محلا للاستنكار والاستهجان، فإن التهوين من شأن الحدث يظلمه ويبخسه حقه في التقدير والإنجاز. ويظل السؤال الصعب هو كيف يمكن أن يعطى الإنجاز حقه بحيث يحتفي به بالقدر الذي يستحقه من الاحترام والاحتشام. علما بأن الضجيج لا يحدث هيبة، وأن التاريخ لا تكتبه ولا تخدعه مقالات الصحف أو تهويلات البرامج التلفزيونية، لأن العدل أساس الملك.