16 سبتمبر 2025
تسجيلما إن أعلنت الحكومة المصرية عن نيتها تغيير قانون التظاهر حتى سارع كثيرون إلى امتداح الفكرة والحفاوة بالتصريحات التي حملتها وعبر عنها وزير الشؤون القانونية المستشار مجدي العجاتي. ولا بأس من ذلك بطبيعة الحال، شريطة ألا ننسى أن ما بلغنا مجرد إعلان نوايا، العبرة فيه ليست فقط بالتنفيذ ولكن أيضا بالشكل الذي ينتهي إليه القانون بعد التعديل، أقول ذلك لأننا ورثنا تقليدا في البيروقراطية المصرية يستعيض بالكلام عن الفعل وبتحرير الاستمارة عن إنجاز المعاملة. أدري أن ثمة توجيها دعا إلى التركيز على الإيجابيات وإبراز الإنجازات، بوجه أخص مع حلول ذكرى انتفاضة ٣٠ يونيو. لكنني أفهم أن يكون المقصود به هو الأفعال التي تتم وليس التصريحات التي تطلق في الفضاء الإعلامي. ولكي لا يساء فهم كلامي فأرجو أن يكون معلوما أنني لا أدعو إلى التشكيك في التصريحات المتعلقة بالموضوع، لكنني فقط أدعو إلى استقبالها بترحيب حذر.رغم أن المسألة لا تزال في حدود الوعد والنية، فذلك وحده يعد سببا كافيا لتأييد الحذر الذي أدعو إليه، إلا أنني لدى أسباب أخرى تعزز فكرة التريث وانتظار الأفعال، في مقدمة تلك الأسباب ما يلي:- أنه منذ صدور قانون التظاهر في فترة الرئيس السابق عدلي منصور (عام ٢٠١٣) والشكوى المرة منه والارتياب فيه يتردد على ألسنة كل الحقوقيين وغيرهم من الوطنيين المهتمين بالشأن العام. وتصورنا في لحظة تفاؤل أن البرلمان الذي يفترض أنه انتخاب المجتمع سيحمل تلك الشكاوى وسيفتح الملف، إلا أنه بعد انتخابه وطوال الأشهر الستة الماضية على الأقل لم يتطرق للموضوع من أي باب. وحين أقنعتنا ممارسات البرلمان بأنه يمثل الحكومة بأكثر مما يمثل المجتمع، فإن الرسالة التي تلقيناها من ذلك التجاهل والصمت هي أن المجلس سكت لأن الحكومة لا تريد. أما لماذا غيرت الحكومة رأيها في الوقت الحالي فعلم ذلك عند الله. لكن ما تجدر ملاحظته أن الأجهزة التي كانت وراء إصداره ليست بعيدة عن الدعوة إلى تعديله، بعدما تبين أن الضرر من وجوده أكبر في الداخل والخارج.- السبب الثاني أن قانون التظاهر يحتاج لأكثر من مجرد التعديل، لأنه حافل بالألغام والمخالفات الدستورية سواء في مصادرته لحق التظاهر السلمي أو في تعسفه الذي قيد بمقتضاه حق التجمع وحرية التعبير أو في العقوبة التي يقررها (تصل إلى خمس سنوات حبسا و١٠ آلاف جنيه غرامة). ثغرات بهذه الجسامة لا يعالجها مجرد التعديل لأن القانون إذا صدقت النية في علاج آثاره أم أنه يحتاج إلى إلغاء أو أنه ينبغي أن تعاد كتابته من جديد بروح مختلفة. وأظن أن الأجواء الراهنة لا تحتمل أيا من الخيارين. الأمر الذي يعني أن الكلام عن التعديل قد لا يتجاوز نقاط لا تمس عيوبه الجوهرية.- السبب الثالث أن القانون يعبر عن سياسة للنظام القائم، وليس معزولا عن السياق العام ولا عن القوانين الأخرى المقيدة للحريات المعمول بها. ولأنه كذلك فلا سبيل إلى إجراء تغيير حقيقي عليه يعالج ثغراته ويخلصه في سوءاته إلا إذا تغيرت السياسة الداخلية، وأعطى الأمن حجمه الحقيقي في إدارة الشأن العام. ولأننا فيما هو معلن على الأقل لا نكاد نلمس تغييرا يذكر في توجهات السياسة الداخلية يمكن أن يقنعنا بأن ثمة انفراجا ديمقراطيا وحقوقيا قادما في الطريق. فإن السؤال المنطقي والمشروع يصبح كالتالي: لماذا نتوقع أن تعالج ثغرات قانون التظاهر وتخفف قيوده ويرفع تعارضه مع الدستور، في حين أن التشدد قائم في مجالات أخرى. وهو ما نلمسه مثلا في النزوع إلى قمع منظمات المجتمع المدني من خلال القانون المعيب الذي بات يعرف بقانون «الأشياء الأخرى». كما أن ذلك قائم في نصوص قانون الإرهاب الفضفاضة التي تلاحق أي ناشط، وفى محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية... إلخ.ما أريد أن أقوله إن قانون التظاهر جزء من حزمة قوانين شكلت عدوانا وتقييدا سافرين على الحريات العامة، الأمر الذي أرسى واقعا يختلف بصورة جذرية عن ذلك الذي تطلعت إليه الجماهير التي خرجت في ٢٥ يناير ٢٠١١، بل بدا صادما لكثيرين من الوطنيين الذي خرجوا في انتفاضة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.إذا صح ذلك التحليل فإنه ينبهنا إلى أننا بصدد حالة أكبر بكثير من قانون المظاهرات، وإن القضية الأساسية تكمن في طبيعة الرؤية السياسية والموقف من الحريات العامة، أي في حسم الاختيار بين دولة الحق والعدل ودولة الأمن. وما لم يتم ذلك الاختيار لصالح الأولى. فأي كلام عن تعديلات سيظل من قبيل تجميل الواجهة وتغيير الطلاء وتحسين شروط البقاء في داخل القفص، وذلك لن يحل الإشكال الأساسي الذي مصدره القفص ذاته.