16 سبتمبر 2025

تسجيل

مستقبل غامض للتحول الديمقراطي في مصر

19 أبريل 2016

حينا بعد حين تتضاعف الأسئلة الحائرة المثارة حول مستقبل الديمقراطية في مصر(١)حين وجهت النائبة الإسبانية، ارنيست مارجال عضو البرلمان الأوروبي سؤالا إلى الوفد المصري حول وضع التحول الديمقراطي في مصر، كانت خلاصة الرد أن العملية تستغرق ما بين خمس إلى عشر سنوات. هذه المعلومة أبرزتها الصحف المصرية الصادرة يوم الجمعة الماضي (١٥/٤) في سياق استعراضها لما حققته زيارة الوفد البرلماني المصري لمقر البرلمان الأوروبي في بروكسل، لاحتواء آثار البيان الذي أصدره البرلمان المذكور وانتقد فيه انتهاكات حقوق الإنسان في مصر.لم نتعرف على الأساس الذي بنى عليه أعضاء الوفد المصري تقديرهم للفترة اللازمة لإنجاز التحول الديمقراطي، لكن الملاحظ أن المدة اختلفت عن تلك التي سبق أن أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي. ذلك أنه ذكر في الحوار الذي أجرته معه مجلة «جون افريك» الفرنسية (في ١٤ فبراير الماضي) أن الديمقراطية عملية مستمرة يتطلب تحقيقها في مصر فترة تتراوح بين ٢٠ إلى ٢٥ سنة. وعندما ألقى عليه نفس السؤال في اجتماعه مع رئيس مجلس النواب الأمريكي والوفد المرافق له (في ٧/٤) كان رده أن العملية الديمقراطية مستمرة ولا يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها.هذه الخلفية تسلط الضوء على عدة ملاحظات هي:< إن ثمة قلقا أوروبيا وأمريكيا على الحالة الديمقراطية في مصر.< إن الاتفاق منعقد على أن الوضع الحالي ليس ديمقراطيا، وهو ما لم يختلف عليه المصريون مع الأوروبيين أو الأمريكيين.< إن السؤال لم يعد مثارا حول ما إذا كانت في مصر ديمقراطية أم لا، ولكنه أصبح ينصب على الأجل الذي يمكن أن يتحقق فيه التحول المنشود.< إنه ليس هناك معيار واضح يمكن أن تقاس به جدارة مصر بالاستحقاق الديمقراطي، كما أن أجل توفير ذلك الاستحقاق مفتوح. آية ذلك أن الوفد البرلماني قدره بما يتراوح بين ٥ وعشر سنوات، في حين وصل به الرئيس السيسي إلى ما بين ٢٠ و٢٥ سنة.< في كل الأحوال فإن التحول الديمقراطي يظل حلما مؤجلا وليس حالا.(٢)هذه الخلاصة تبدو محيرة في بلد عرف الحياة الحزبية منذ أكثر من قرن من الزمان. ذلك أن أغلب المؤرخين المصريين يتفقون على أن «حزب الأمة» الذي تشكل في شهر سبتمبر عام ١٩٠٧ هو أول الأحزاب المصرية التي تكونت بشكل رسمي. ورغم أن عدة مجموعات سياسية ظهرت قبل ذلك وقدمت نفسها باعتبارها أحزابا إلا أنها كانت مجرد تيارات نهضت لمقاومة الاحتلال البريطاني. غير أن الأحزاب المصرية تبلورت بصورة أوضح وأكثر فعالية مع ثورة ١٩١٩، وانتعشت في ظل دستور ١٩٢٣، الذي أسس لما سمي «بالمرحلة الليبرالية» التي استمرت حتى عام ١٩٥٢. وخلال تلك الفترة كان حزب الوفد هو ممثل الأمة، كما أنها شهدت تداولا للسلطة مع حزب الأحرار الدستوريين والحزب الوطني وغيرهما من أحزاب الأقلية.خلال تلك المرحلة الليبرالية، شهدت مصر صراعا بين ثلاث قوى هي: الملك والاحتلال وحزب الوفد. ويشهد المؤرخون بأنها اتسمت بحيوية سياسية نسبية، ساعد عليها أمران، أولهما إن الدستور أرسى أساس الحكومة الدستورية والحكم الملكي المقيد، كما أرسى الأساس لدولة القانون التي تقوم على الفصل بين السلطات، ووضع حدودا عامة لسلطات الملك والحكومة والبرلمان. الأمر الثاني أن وجود الاحتلال البريطاني أعطى للجماعة الوطنية هدفا واضحا يبرر الاحتشاد حوله.إزاء ذلك بوسعنا أن نقول إنه في ظل دستور ١٩٢٣، وطوال ثلاثين عاما تقريبا (حتى قامت ثورة يوليو عام ١٩٥٢) خطت مصر خطوات عدة على طريق الممارسة الديمقراطية فكان للمجتمع حضوره المعتبر ممثلا في الأحزاب السياسية وفي مجلس الشيوخ والنواب، وعرفت تلك المرحلة تداول السلطة بين أحزاب الأغلبية كما عرفت الصراع بين تلك الأحزاب وبين الوفد وبين كل من الملك وسلطة الاحتلال، إلا أن المسيرة الديمقراطية توقفت مع سقوط الملكية وقيام الضباط الأحرار بثورة ١٩٥٢، الأمر الذي أدى إلى وقف العمل بالدستور وإلغاء الأحزاب، وتولى مجلس قيادة الثورة إدارة دفة الأمور في البلاد.في ظل النظام الناصري تم تجميد المسيرة الديمقراطية لأسباب يمكن تبريرها، يتعلق بعضها بإزالة آثار النظام القديم ويتعلق البعض الآخر بتغيير أولويات النظام الجديد الذي شغل بالدفاع عن استقلال مصر ومساندة حركات التحرر الوطني، وتحدي قوى الهيمنة في ذلك الزمان، وهو ما عرض مصر للعدوان مرتين (في عامي ١٩٥٦ و١٩٦٧) ورغم زوال تلك الأسباب في مرحلة السادات فإن تعطيل المسيرة الديمقراطية لم يستمر فقط. ولكنه تعرض للتشويه في ظل التعددية المصطنعة التي سمح خلالها بإقامة ثلاثة منابر لليمين واليسار والوسط في عام ١٩٧٦. وكان السادات هو من قوضها باعتقالات سبتمبر ٧٩. وحين جاء مبارك فإنه أبقى على الأنقاض السياسية التي خلفها السادات كما هي، في حين ظلت مراهنته الأساسية على جهاز أمن الدولة الذي أصبح حزبه الحقيقي. وخلال سنوات حكمه الثلاثين ظلت المسيرة الديمقراطية محاصرة في غرفة الإنعاش، إلى أن ماتت السياسة بمضي الوقت، ولم تبعث إلا على وقع ثورة ٢٠١١. وحين أطلق دستور ٢٠١٣ تشكيل الأحزاب فإن قصر التجربة لم يسمح لها بأن تنمو ولا أتاح للبرلمان المنتخب أن يثبت حضوره. إلى أن سقط حكم الإخوان في عام ٢٠١٣، وقادت القوات المسلحة التحول الذي أفضى إلى ما نحن بصدده. وبعد صدور دستور المرحلة الجديدة في عام ٢٠١٣ أشرفت الأجهزة الأمنية على انتخابات مجلس النواب في عام ٢٠١٥، وبه أصبح لدينا برلمان بلا معارضة وأحزاب بلا فاعلية، الأمر الذي أعاد المسيرة الديمقراطية إلى نقطة الصفر.(٣)في ظل الوضع المستجد أصبح التحول الديمقراطي قضية مؤجلة، وتراجعت أولوية السياسة لصالح إنقاذ الاقتصاد الذي أصبحت القوات المسلحة رافعة أساسية له. وفي ترتيب أولويات المرحلة دأب الخطاب السياسي والإعلامي على الحديث عن الإرهاب تارة واستهداف مصر ومحاولات إسقاط نظامها تارة أخرى، من ثَمَّ احتلت الحرب على هاتين الجبهتين أولوية قصوى. سوغت تعطيل مسار التحول الديمقراطي وتبرير الإجراءات الاستثنائية والانتهاكات التي وقعت لمواجهة احتمالات الخطر المفترضة، الكامنة في الداخل أو تلك التي تهب رياحها من الخارج. إلا أن ذلك الخطاب يبدو ذرائعيا ولا يصمد كثيرا أمام التفكيك والتحليل.. لماذا؟لأن الإرهاب في وضعها الراهن محاط بغموض كبير ولا وجود له على الأرض إلا في شبه جزيرة سيناء، وما أصاب بقية أنحاء مصر منه إما أنه كان من أصداء ما يجري في سيناء (تفجير بعض مديريات الأمن مثلا أو استهداف كمائن الشرطة)، أو أنه تمثل في حوادث محددة من أصداء الصراع السياسي الذي ترتب على عزل الرئيس الأسبق وإسقاط نظامه. ورغم أننا لا نعرف حقيقة ما يحدث في سيناء، إلا من خلال وجهة نظر واحدة فإن محاسبة المسؤولين عن كل حوادث العنف ليست محل خلاف. إلا أن الخلاف يثور حين يتعلق الأمر بالحجم الحقيقي للظاهرة خارج سيناء وإلى أي مدى تعتبر إرهابا يهدد بإسقاط النظام وليس مجرد المشاغبة عليه والتنفيس عن الغضب إزاءه. ناهيك عن أننا لا نعرف على وجه الدقة هوية الفاعلين ودوافعهم إلى ذلك. ولأن تاريخ المرحلة كلها تكتبه الأجهزة الأمنية وإدارات التوجيه المعنوي وتروجه وسائل الإعلام، فإن وصف ما يجري في مصر بأنه خطر للإرهاب يظل قرارا سياسيا وليس تشخيصا موضوعيا للواقع، علما بأن السلطة تعترف بذلك علانية حين تدعو المستثمرين وتغريهم بالقدوم إلى مصر، وما كان لها أن تفعل ذلك لولا أنها تدرك جيدا أن موضوع الإرهاب ليس بالخطورة التي يسوقها الإعلام.المبالغة والإدعاء في مسألة التآمر الخارجي لإسقاط الدولة في مصر أكثر وضوحا. ذلك أن التآمر حدث في المرحلة الناصرية حين كانت مصر مؤثرة ومهددة لمصالح بعض الدول الكبرى في المنطقة العربية والعالم الثالث. إلا أن مصر الراهنة فقدت تأثيرها ولم تعد تغضب الدول المحيطة، بما في ذلك إسرائيل عدوها الاستراتيجي والتاريخي، وبالتالي لم يعد هناك أي مبرر للتآمر عليها. وإذا كان لها بعض المعارضين الذين ينشطون في الخارج، أو يستثمرون أجواء حرية التعبير هناك لانتقاد نظامها أو التواصل مع السياسيين الغربيين. فإن ذلك مما يتعذر وصفه بأنه تآمر لإسقاط الدولة، لأن العبرة في النهاية بمواقف العواصم الغربية وقرارها السياسي وليست بتصريحات بعض الساسة فيها.إذا صح ذلك التحليل فهو يعنى أن الحديث عن مخاطر إسقاط الدولة بالإرهاب أو بمؤامرات الخارج لا يستند إلى حقائق موضوعية، وإنما هو من قبيل التهويل السياسي الذي يحاول إذكاء الشعور بالخطر والحاجة إلى الاحتماء بسلطة الدولة وعضلاتها. وفي الوقت ذاته يبرر الإجراءات الاستثنائية وتشديد القبضة الأمنية، بما يؤدي تلقائيا إلى ترحيل الإصلاح السياسي بدعوى إن الوطن في خطر وهناك ما هو أهم منه.(٤)التحول الديمقراطي ليست له «روشتة» واحدة، وفي الكتاب الذي أصدرته المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (نشرت دار الشروق ترجمته العربية في العام الماضي) دراسة متميزة لتجارب تسع دول نجحت في إنجاز التحول المنشود. وقدمت الدراسة من خلال حوارات مباشرة أجراها فريق من الخبراء والمتخصصين مع الرموز التي حققت الإنجاز. ورغم اختلاف ظروف البلاد التسعة إلا أن الحوارات خلصت إلى ضرورة توفر عوامل عدة لإنجاز التحول الديمقراطي في المقدمة منها ما يلي: حيوية الحركات الجماهيرية ومنظمات المجتمع المدني صاحبة المصلحة في التغيير ــ وضوح الرؤية لدى القوى السياسية والاجتماعية وتوحدها مع التركيز على ما يوحد الجماهير ولا يفرقها ــ إحكام السيطرة المدنية على الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات مع ضرورة الفصل بين الشرطة ومهام الجيش ــ الالتفاف حول القيادات التي ينعقد من حولها الإجماع الوطني ــ تحقيق العدالة الانتقالية بالتوازي مع استمرار القطيعة مع النظام السابق (الاستبدادي).الخبرات التي عرضها المؤلفون في نحو ٧٠٠ صفحة تضمنت دروسا نفيسة سلطت أضواء كاشفة على التجارب المختلفة التي مرت بها الدول التسع. وقد أقنعتني مطالعة الكتاب بأن مصر لم تبدأ بعد رحلة الإقلاع نحو التحول الديمقراطي. وهو ما يؤيد وجهة النظر غير المتفائلة، التي لا تتحدث عن أجل بعيد فحسب، وإنما نرى بأننا صرنا بعيدين حتى عن نقطة البداية. وأن الأثمان الباهظة التي دفعها ثوار ٢٥ يناير إذا كانت قد وضعت مصر على بداية الطريق، فإن ما آلت إليه الأمور بعد ذلك كان بمثابة تراجع عن تلك البداية. وذلك ليس مفاجئا تماما، لأن خبرات التاريخ علمتنا أن انتكاسة الثورات قاعدة وليست استثناء، وأن نجاحها لا يتحقق إلا بالإصرار على مواصلة الطريق أيا كانت تكلفته وتلك رسالة نحن أشد ما نكون في حاجة إلى قراءتها واستيعاب مضمونها.