15 سبتمبر 2025
تسجيلبين المتصارعين في زماننا الكثير من القيم المشتركة التي تستحق التضامنبتأسيس ما سمي بـ«الكتلة المصرية» دخلت مصر طورا جديدا من أطوار الاستقطاب بين الإسلاميين والعلمانيين، له صلته الوثيقة بترتيبات الانتخابات التشريعية التي يفترض أن تبدأ في الشهر المقبل. صحيح أن الكتلة تضم فصيلا منسوبا إلى الصوفية ولكنه فصيل هامشى حتى داخل المجلس الأعلى للطرق الصوفية الذي نأى بنفسه في بيان رسمي عن المشاركة في المشاحنات السياسية الجارية. وأغلب الظن أنه ضم إلى الكتلة من باب ذر الرماد في العيون، خصوصا أن التجمع يضم ليبراليين وشيوعيين وقوميين وأقباطا وآخرين ممن لا يلتقون إلا على الالتزام بالموقف العلماني والحرص على الاحتشاد لمواجهة التيار الإسلامي بمختلف فصائله وعلى رأسها الإخوان المسلمون.ما حدث في مصر له نظيره في تونس، التي شكلت الأحزاب العلمانية فيها ما أسموه التجمع الديموقراطي، لتحدي قوى التيار الإسلامي وعلى رأسها حزب «النهضة»، إلا أن الصورة هناك أوضح منها في مصر، ذلك أن الأحزاب المتأثرة بالثقافة والسياسة الفرنسية لم تخف هويتها ولم تتستر وراء أي قناع، ولكنها أسفرت عن وجهها وذهب بعض عناصرها إلى حد المطالبة بإلغاء الفصل الأول من الدستور التونسي الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، كما طالب آخرون بالنص في الدستور على علمانية الدولة. ورغم أن الأطراف العلمانية في مصر ليست بعيدة تماما عن جوهر هذا الموقف ومنها من دعا في العام الماضي إلى إلغاء المادة الثانية من الدستور، في بيان نشر على الملأ ووقع عليه أشخاص صاروا في صدارة المشهد الراهن، إلا أنهم آثروا تقديم أنفسهم الآن على نحو مختلف ــ فأسقطوا من خطابهم مصطلح العلمانية سيئ السمعة في مصر واستبدلوه بـ«المدنية». واضطرتهم الضغوط الشعبية إلى القبول بالمادة الثانية من الدستور، حتى إشعار آخر على الأقل.ما يهمني في ذلك الاستقطاب أنه يحمل بين طياته ثلاث مخاطر هي:(1) أنه يشكل منعطفا في مسار وأولويات التناقض في كل من الثورتين في كل من مصر وتونس. إذ بدلا من أن يظل التناقض الأساسي الذي يشغل الجميع هو ذلك الحاصل بين أنصار الثورة وأعدائها، فإنه تحول إلى احتراب وتناقض بين أبناء الثورة أنفسهم، الأمر الذي حرفهم عن حسم التناقض الرئيسي مع أعداء الثورة والمتربصين بها.(2) أن ذلك يصرف قوى الثورة عن أهدافها الحقيقية المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أو بشعار الفقراء أولا. وإنما يحول الصراع من سياسي واجتماعي إلى أيديولوجي ويجعله صراع هويات وليس صراعا بين سياسات. وهو ما تجسد مثلا في إشغال الرأي العام بما إذا كانت الدولة ستكون ذات هوية علمانية "مدنية، أم دينية" إسلامية وهي المشكلة التي تهم النخب السياسية ولا علاقة مباشرة لها مع المواطن العادي.(3) أن الاستقطاب الإسلامي العلماني إذا ما استحكم في المجتمعات العربية ذات الأغلبيات المسلمة فإنه لن يكون في صالح القوى الأخيرة. ذلك أن صياغة الصراع على ذلك النحو من شأنها أن تضع تلك القوى في موقف الضد من الانتماء الإسلامي. ولن يخلو الأمر من حملات تستثمر الأجواء المواتية لتصنف الليبراليين والعلمانيين بحسبانهم مشتبكين مع الإسلام ذاته، وليس مع جماعات سياسية لها مرجعيتها الإسلامية. وفي مجتمعاتنا المحافظة والمتدينة في عمقها الشعبي فإن حساسيتها إزاء هذه النقطة بالذات تحكم على الطرف العلماني والليبرالي بالخسران المبين ــ وإذا حقق ذلك فوزا للقوى الإسلامية فإنه سوف ينسحب بالخسارة على الوطن وعلى نظامه الديموقراطي المنشود. ذلك أن سفينة الوطن لن تستقيم مسيرتها إلا إذا تكاتفت كل القوى الوطنية الحية للدفاع عن مصالحها العليا وجماهيرها المتعطشة إلى العدل والحرية.تعي الذاكرة الإسلامية قصة «حلف الفضول» الذي أقامه في الجاهلية نفر من وجهاء قريش لنصرة الضعفاء في مواجهة من يستقوون عليهم، وقال عنه النبي عليه الصلاة والسلام إنه لو أدركه لانخرط فيه وانضم إليه. وهو موقف استبعدت فيه الأيديولوجيا، حيث لم ير فيه النبي كونهم مشركين وهو مسلم موحد بالله، ولكنه انطلق من الدفاع عن قيمة مشتركة تمثلت في الدفاع عن الضعفاء في مواجهة ظلم الأقوياء. ولست أشك في أن بين المتصارعين في زماننا الكثير من القيم المشتركة التي تستحق التضامن والتوافق بين المختلفين، ومن ثم تخرجنا من الاستقطاب النكد الذي نحن مقبلون عليه. لكن المشكلة أنه في حين لدينا الكثير مما هو مشترك فإن الساعين إلى التلاقي والتوافق قلة خافتة الصوت وقليلة الحيلة.