18 سبتمبر 2025
تسجيلتعليق عالم الفضاء المصري الدكتور عصام حجي على مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي كان كالتالي: تمنيت طرح استثمارات لبناء مدينة تعليمية تحتضن أحلام وطموحات الشباب وتكون مركزا للفكر والاستثمار في البشر، خصوصا في مجالي التعليم والصحة، ذلك أن شباب مصر هم أكبر رأسمال للوطن، والاستثمار الحقيقي هو الذي يستهدف عقول وأحلام جيل الشباب، فالدولة إذا ملكت الحاضر فالشباب يملك المستقبل. هذه الملاحظة الرصينة أقلقت البعض وأثارت غضب آخرين، حتى أن أحدهم حذر العالم الذي يعمل بوكالة ناسا الأمريكية، وقال في تعليقه على رأي الدكتور حجي إنه حين يبدي رأيا مخالفا لما أعلنه الرئيس السيسي، فإن ذلك سيعد مزايدة من جانبه تعرضه للاتهام بالخيانة، إلا أن أحد الغاضبين استفزته كلمات الدكتور حجي فعاتبه قائلا: اتق الله يا رجل. وكأنه أراد أن ينبهه إلى أنه أخطأ بما ذكره، معتبرا أنه ليس من اللائق أن يبدي هذا الرأي في أجواء العرس المقام.مثل هذه الملاحظات تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي، التي أتاحت لكل صاحب رأي أن يسجله ويجهر به بالأسلوب الذي يراه. ولأنني أحد الذين يتلقون مثل هذه الرسائل كل يوم تقريبا، فإنني أزعم أن أصداء ملاحظة الدكتور حجي كان فيها قدر كبير من الترفق به، فضلا عن أنها خلت من سوء الأدب والابتذال، خصوصا أنه لم يتعرض للاتهام بالأخونة الذي طال الرئيس أوباما ومحطة تلفزيون "سي إن إن" وصحيفة واشنطن بوست، مع ذلك فأصداء ملاحظته تثير عندي أربع ملاحظات هي:< إن طغيان أصوات التهليل والتصفيق أفسد الحس العام، بحيث إن شرائح واسعة من الناس في مصر باتت تستغرب وتستنكر بشدة سماع أي صوت آخر لا ينخرط في العرس المقام. ليس ذلك فحسب وإنما أصبح سوء الظن هو أول ما يخطر على البال في هذه الحالة. وقائمة الاتهامات في هذه الحالة طويلة وبلا نهاية، فالآخر إما «إخوانجي» أو خائن وطابور خامس، وإذا لم يكن كذلك فهو يسعى إلى إسقاط الدولة والنيل من هيبتها. أو يتهم بإهانة القوات المسلحة والشرطة. وإذا كانت وسائل الإعلام قد تولت مهمة التهليل طول الوقت، فينبغي ألا ينسى في هذا الصدد دور أجهزة التوجيه المعنوي التي تحدثت التسريبات عن الجهد الكبير الذي تبذله في الشحن والتعبئة ورفع منسوب تهييج الرأي العام في بعض الحالات.< إن ثقافة التهليل هذه تجاوزت بكثير ثقافة «السمع والطاعة» التي شاعت في أوساط الإخوان في وقت سابق، ولا تزال محل تنديد واستهجان. ورغم أن التنديد في محله، إلا أن دائرة «السمع والطاعة» ظلت في محيط أعضاء الجماعة لم تتجاوزه، فضلا عن أن استنكارها كان محتملا ومقبولا. أما في الوقت الراهن فثقافة التهليل والتصفيق التي تروج لها وسائل الإعلام على مدى الساعة شوهت عقول وضمائر أعداد غفيرة من البشر، أصبحت شديدة الحساسية إزاء أي اختلاف. وهو ما أوصل الاختلاف في الرأي إلى حدود الخصومة والقطيعة وإثارة الضغائن. ليس بين المشتغلين بين العمل العام فحسب، ولكن سمومها قطعت الأواصر في إطار العائلة الواحدة، والبيت الواحد في حالات عدة. وهو أمر له خطره الذي يتعين الحذر منه سواء على النسيج الاجتماعي، أو على البيئة السياسية التي ينكبها ويقتلها الرأي الواحد.< إن هذه الأجواء أفردت شرائح من «الشبيحة» الجدد الذين يؤدون ذات الوظيفة التي يمارسها أقرانهم في سوريا، فالأخيرون يعذبون ويتولون اغتيال المعارضين ماديا، والأولون يشوهون ويتفننون في الاغتيال المعنوي لأصحاب الرأي الآخر حتى إذا لم يكونوا من المعارضين سياسيا. وإذا كان هؤلاء الأخيرون قد أصبحوا ضحايا تصفيات الشبيحة الجدد، إلا أن الوطن يظل الخاسر الأكبر جراء انتشار ميليشياتهم في وسائل الإعلام ومواقع التأثير على الرأي العام، ولأن تلك المهمة لا تتطلب أي معرفة أو ثقافة، ولا تحتاج لأكثر من الصفاقة والبذاءة والجرأة على الكذب والتغليط، فإنها تلقى رواجا في أوساط بذاتها باتت وفيرة في زماننا.< إن الملاحظة التي أبداها الدكتور عصام حجي غاية في الأهمية، وتستحق دراسة بأكثر مما تستحق عتابا أو اتهاما، ذلك أن النجاحات الاقتصادية التي حققها مؤتمر شرم الشيخ، إذا تحققت، فإنها ربما أضافت الكثير إلى مجالي الإعمار والإدارة، وهو أمر لا بأس به. لكن غياب أي استثمار في مجالي التعليم والصحة لا يخدم المستقبل بأي حال. ولا تفوتني في هذا الصدد مقارنة تجربة النهضة في ماليزيا بالحاصل في مصر، ذلك أنهم هناك يخصصون للتعليم في الموازنة العامة نسبة تتجاوز ٢٥٪ من الموارد. وهذه النسبة توفر للتعليم نصيبا من الموازنة يعادل ما بين اثنين أو ثلاثة أضعاف ميزانية الجيش والدفاع. (في عام ٢٠٠٧ كانت ميزانية التعليم تعادل أكثر من ١٠ مليارات دولار وميزانية الجيش أقل من ٤ مليارات، وفي عام ٢٠١١ خصص للتعليم ١٣ مليار دولار وللجيش ٤.٥٦ مليار دولار) أما في مصر، فإن دستور ٢٠١٤ تمنى أن تخصص الحكومة المصرية للتعليم ٧٪ من الموازنة العامة، وهي نسبة لا تقارن بما يخص للجيش أو الشرطة.كان حريا بنا أن نستمع إلى رأي الدكتور حجي ونناقشه، بدلا من أن نتهمه ونحذره، ونبعث إليه برسالة تدعوه لأن يلتزم الصمت ولا يتكلم إلا إذا أراد أن يشارك في التهليل والتصفيق، وهي ذات الرسالة التي يتلقاها أمثالي من حين لآخر.