17 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة العقل المدبر

17 أكتوبر 2015

حين تطالعنا الصحف المصرية بأخبار عن البدء بتشغيل ألف مصنع متوقفة عن الإنتاج، وكذلك البدء في إصلاح القطارات قبل حلول الشتاء والتفكير في تدريب موظفي الحكومة للنهوض بأدائهم، فإن ذلك كله يسرنا ويدهشنا. هو يسرنا لأنه يعبر عن توجه لحل المشكلات الحقيقية للمجتمع. أما مصدر الدهشة فيكمن في أن ذلك كله تأخر وكان ينبغي أن يبدأ منذ سنتين أو ثلاث على الأقل، الأمر الذي يثير التساؤل ويبعث على الحيرة.يوم ١٣ أكتوبر الحالي أبرزت الصحف المصرية قرارات وصفت بأنها «حاسمة» اتخذها رئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل خلال اجتماع وزاري عقده في اليوم السابق. أبرز تلك القرارات تعلق باستكمال وتشغيل ألف مصنع تعطل بعد الثورة خلال مهلة لا تزيد على عام واحد. صحيح أن وزير التعليم السابق طلب إعطاءه مهلة عام قبل مساءلته عما فعل لإصلاح ذلك القطاع الحيوي لكنه ترك مكتبه قبل نهاية العام. وصحيح أيضا أننا لسنا واثقين من أن رئيس الوزراء الحالي سيظل في منصبه بعد الانتخابات التشريعية التي نحن بصددها، ويفترض أن تشكل بعدها وزارة جديدة، إلا أن «البدء» بتشغيل المصانع العاطلة قرار ينبغي أن يحتفي به، وأن يعطي حقه من الاهتمام في ذاته وفي دلالته.قبل ذلك بأيام قليلة (في ٦/١٠) نشر أن وزارة النقل «بدأت» في تنفيذ مشروع إصلاح قطارات الضواحي الدرجة الثانية بتوفير النوافذ والإضاءة اللازمة لها قبل حلول الشتاء. وذكر أن عربات السكة الحديد عددها ٢١٥٢ وحدة، منها ١٦٨٧ عربة بحاجة إلى إصلاح، وذكر الخبر المنشور أن عربات الدرجة الأولى المكيفة لا تحتاج إلى إصلاح، في حين أن المشكلة أكبر بكثير في عربات الدرجة الثانية وقطارات الضواحي التي تستخدمها طبقات المجتمع الدنيا، وأيا كان رأينا في الأرقام ودقتها إلا أنه لم يكن مفهوما أن تتخذ الخطوة قبل حلول الشتاء وعدم الاعتناء بإصلاح العربات وإضاءتها طوال أشهر الصيف التي باتت تحتل ثلاثة أرباع السنة. مع ذلك قلت إنه لا بأس أن يتذكر وزير النقل آدمية الفقراء وحقهم في أن يستخدموا قطارات تختلف عن عربات نقل المواشي وأن يحدث ذلك مع إطلاق القطار الفاخر الجديد (في، أي بي) المخصص للقادرين بسبب ارتفاع قيمة تذكرة ركوبه.كنت قد قرأت أيضا عن مؤتمر عقد بالقاهرة كان موضوعه مثيرا للانتباه، لأنه خصص لمناقشة «الابتكار في الحكومة»، وهو ما بدا غريبا وبعيدا عن الأذهان، لأن سمعة الحكومة على النقيض تماما مما أشار إليه العنوان. الشاهد أن مناقشات المؤتمر بينت أن ميزانية تدريب الموظف في مصر بحدود ١٥ جنيها سنويا، (أقل من ثمن علبة السجائر التي تباع بنحو ٢٥ جنيها)، كما دعت إلى الاهتمام بتدريب شاغلي الوظائف العليا للارتقاء بمستوى خدمات الأداء الحكومي (موظفو الحكومة ٦.٤ مليون شخص).القاسم المشترك بين الحالات الثلاث أنها لامست الواقع وعكست اهتماما بالطبقات الدنيا من المواطنين، وهذا ما ينبغي أن نحمده ونقدره. ذلك أن المصانع العاطلة والقطارات الخربة والموظفين المضربين عن العمل دون إعلان، ليست سوى نماذج للتدهور الحاصل في الخدمات التي تقدم للمواطنين. والحاصل في مجالات التعليم والصحة والإسكان ليس أفضل كثيرا بل قد يكون أفدح. وقد قرأت قبل أيام عن المدرسة التي كانت «إسطبل» للخيول، وأخرى بلا فناء مما اضطر الإدارة إلى تنظيم الطوابير في الشارع وممارسة الألعاب الرياضية فوق السطوح، وثالثة في الصعيد بلا مقاعد الأمر الذي اضطر التلاميذ للجلوس على الأرض..إلخ. وقبل ذلك تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورا مروعة التقطها أطباء الإسكندرية لأوضاع المستشفيات الحكومية هناك، الأمر الذي كان تجسيدا للحال المزرية التي تعاني منها المستشفيات في المدن الكبرى، فما بالك بالقرى النائية والنجوع.من المفارقات أننا ونحن نتحسس الطريق ونستبشر بالبدء في حل مشكلات المجتمع ومعاناة الناس نفاجأ بفرقعة في الفضاء المصري تمثلت في استدعاء ملف العاصمة الجديدة التي ستكلف مرحلتها الأولى ٤٧ مليار دولار، والتي ستمتلئ بالفنادق والحدائق والناطحات..إلخ. في حين أن عدة ملايين من المصريين يسكنون في القبور. وهو ما يجدد الدهشة ويعطي انطباعا بأن العقل المدبر ليس واحدا، وأن هناك من يتحسس أوجاع الناس ومن يحلق في الفضاء محاولا إبهارهم ومداعبة أحلامهم. ونحن بين الاثنين متفرجون وحائرون. إذ لا رأي لنا فيما يجري وليس بمقدورنا أن نساءل أو نحاسب. والمشكلة الأكبر من كل ذلك أننا صرنا لا نعرف إلى أين نحن ذاهبون.