15 سبتمبر 2025

تسجيل

آخر الدواء الحظر

17 أغسطس 2016

قرأت أن عمدة مدينة ميلواكي بولاية ويسكونسن الأمريكية قرر حظر تجول المراهقين بالمدينة بعد الساعة العاشرة مساء. واستهدف بذلك وضع حد للشغب الذي انتشر فيها احتجاجًا على التفرقة العنصرية ضد السود. وهو ما ذكرني على الفور بمشهد المراهقين وهم يلعبون كرة القدم ساعة الفجر تحت بيتي. وكنت قد نقلت الشكوى يومًا ما إلى ضابط المباحث الجنائية في الحي، فكان رده أنه يعانى المشكلة نفسها ولا يجد لها حلًا. ثم علمت من آخرين أن الظاهرة أصبحت بمثابة وباء انتشر في مختلف أحياء القاهرة. فقد عزف الشبان عن النوادي، سواء لأنهم أصيبوا بالملل أو أنها لم تعد تجذبهم بأنشطتها المحدودة، أو لأنها تغلق أبوابها عند منتصف الليل. وهو الموعد الذي يبدأ فيه كثيرون نشاطهم. إذ تهدأ الحركة في الشوارع. ويزداد الطقس لطفًا في أشهر الصيف. من نافذة بيتي أطل عليهم فأراهم يتضاحكون وأحيانًا يغنون ويرقصون على أنغام الموسيقى أو يتشاجرون ويتضاربون. وأحيانًا يتبادلون اللعب بكرة القدم. ولا يخلو الأمر من مرات أراهم فيها يوزعون المخدرات فيمن بينهم. ما يدهشني أن تلك التجمعات مستمرة طوال أشهر السنة، فلا يردع أفرادها شتاء ولا تزعجهم الرياح أو الأمطار أو يعتبرون لكل فصل من الفصول "الأنشطة" والهوايات التي تناسبه. وإن كانت تلك الأنشطة تتعدد وتبلغ الذروة خلال عطلة الصيف الذي نحن بصدده. أستغرب أيضًا أن يقضوا أوقاتهم طوال الليل في حلقات على النواصي تضم خليطًا من المراهقين الشبان والفتيات. دون أن يسأل عنهم أهل أو تنصحهم الشرطة بالكف عن إزعاج السكان، أو حتى يعترض سكان الحي على وجودهم اليومي. حتى يبدو وكأن الأهل استقالوا من مهمة نصح أبنائهم وبناتهم، والشرطة باتت مشغولة بالأمن السياسي وتركت الأمن الاجتماعي للناس، أما السكان العاديون فقد حلت بهم درجة من السلبية، بحيث ما عادوا يعتنون بما يجرى خارج جدران بيوتهم. في حدود علمي فإن الظاهرة ليست مقصورة على بعض أحياء القاهرة دون غيرها، لكنها صارت ظاهرة انتشرت في العديد من المدن المصرية، معبرة عن شكل من أشكال "التطرف" في اللهو والعبث. هل الحل في صدور قرار يحظر التجول للمراهقين بعد توقيت معين في الليل؟ ــ لا أظن أن ذلك ممكنًا أو مجديًا. لأن العمدة الأمريكي حين فعلها في ميلواكي فإنه أراد أن يمنع أفعالًا مخالفة للقانون. أما هؤلاء المتنطعون على النواصي (في الجزائر يسمونهم "حطيط" والكلمة دخلت القاموس الفرنسي، لأنهم يقفون ملتصقين بالحوائط والجدران) يمارسون حريتهم في العبث، لكنهم يسيئون استخدام تلك الحرية. إذا أردت تكييفًا لموقفهم فأزعم أنهم ظالمون ومظلومون. هم ظالمون لأنهم يسببون إزعاجًا للسكان، ومظلومون لأنهم لم يجدوا وعاء يستوعبهم ولا أسرًا ترشدهم ولا سلطة تردعهم أو توقفهم عند حدهم ولا سكانًا ينهرونهم ويحتجون على ممارساتهم. إذا صح ذلك التحليل فمعناه أن التعامل الرشيد مع الظاهرة تتوزع مسؤوليته على جهات عدة تتراوح بين الأسرة والمجتمع والسلطة. لكن مشكلة التطبيق تكمن في أن السلطة هي الجهة الوحيدة المحددة، أما الأسر والمجتمع فهي مساحات شاسعة يمكن مخاطبتها ويتعذر تحديد طرف معين يوجه إليه الخطاب. إلى جانب ذلك ففي القانون الجنائي مادة صريحة تعاقب على إزعاج السلطات وتعتبره من جرائم أمن الدولة أما إزعاج المجتمع فلا نص صريحًا بخصوصه، والنصوص القانونية التي تتعلق بالضوضاء تعاتب أكثر مما تعاقب، ذلك أنها تغرم المتسبب في الضوضاء بمبلغ لا يتجاوز ?? جنيهًا أي ما يعادل دولارين تقريبًا. وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن المشرع اعتنى بإزعاج السلطة ولم يكترث كثيرًا بإزعاج المجتمع. وفي الظرف الراهن بوجه أخص فإن جهد كل أجهزة الدولة منصرف إلى وضع حد لإزعاج السلطة والنظام، أما ما يخص المجتمع فهو متروك إما لأهله أو مؤجل حتى إشعار آخر. وعديدة قصص الذين يبلغون عن سرقة سياراتهم لأقسام الشرطة فيطلب منهم أن يتولوا الأمر بأنفسهم، أو ينصحون بمخاطبة أناس معينين من الأهالي لهم صلتهم بعصابات السرقة. وليس مستغربًا والأمر كذلك ألا يجد المواطنون وسيلة لاستنفار أجهزة الأمن وتحريكها سوى إبلاغها بأن الفاعل في أي جريمة، أو المجتمع في أي مناسبة، له صلة بالإرهاب. وفي هذه الحالة وحدها يلقى القبض على المتهم ولا يظهر له أثر بعد ذلك. إذا أردنا أن نتصارح أكثر فيتعين أن نعترف بأن القانون عادة ما يكون عاكسًا لواقع اجتماعي معين بقدر ما إن الدستور يعبر عن خرائط الواقع السياسي. لذلك فإن ضعف مجتمعاتنا منعكس على القانون الذي يعتبر إزعاج السلطات جناية في حين أن إزعاج المجتمع مجرد مخالفة يصعب إثباتها. سنحتاج إلى وقت طويل حتى تبصر الأسر بمسؤولياتها ويتخلى الناس عن سلبياتهم بحيث يصبحون أكثر إيجابية. وإلى أن يحدث ذلك فلا يبقى أمامنا سوى أجهزة السلطة التي يمكن أن تلجأ إلى الزجر والردع. وإذا كانت تتحرك لفض المظاهرات السلمية التي تعبر عن الاحتجاج السياسي وتحيل النشطاء إلى المحاكم العسكرية، فلماذا لا تحاول أن تفض بالنصح والحسنى تلك التظاهرات اليومية التي تؤرق السكان وتسبب لهم إزعاجًا مستمرًا؟ ولا أرى غضاضة من فرض حظر التجول على المراهقين بعد منتصف الليل مثلًا في بعض الأحياء التي تضج بالشكوى من تجمعاتهم. شريطة أن يكون ذلك آخر الدواء، الذي تسبقه مساعٍ أخرى للنصح والتوجيه والزجر. وذلك لن يريح السكان وحدهم ولكنه سيحمل إليهم رسالة تطمئنهم على أن أجهزة الأمن تسعى لحمايتهم أيضًا ولا تكتفي بحماية النظام وحده.