15 سبتمبر 2025

تسجيل

عن أزمة النخبة المصرية وكارثة ترامب

17 يناير 2017

إذا كان انتخاب دونالد ترامب عارًا على أمريكا فهو بالنسبة لنا كارثة.(١)حقوق الإنسان في خطر خلال العام الجديد. ذلك أن الشعبوية الصاعدة تمهد الطريق للاستبداد حين تتعامل مع الحقوق باعتبارها عقبة أمام إرادة الأغلبية، في حين أنها مسألة وقت فقط قبل أن ينقلب الزعماء الشعبويون على الذين يختلفون معهم. وهو ما ينتهي بسحق إرادة الفرد وإهدار المبادئ الأساسية للكرامة والحرية والمساواة.هذه خلاصة تختزل شهادة التقرير العالمي المتشائم الذي أصدرته في الأسبوع الماضي (في ١٢/١) منظمة «هيومان رايتس ووتش» بخصوص آفاق حقوق الإنسان في العام الجديد. ولا مجال لاستعراض محتوى التقرير الكبير الذي صدر في واشنطن، إلا أن الخلاصة التي أشرت إليها تمثل محورًا له. أما التفاصيل التي تحذر من تداعيات الشعبوية وتجلياتها ومخاطرها في مختلف أنحاء العالم فقد بسطها التقرير الدولي في ٦٨٧ صفحة، تمت خلالها مراجعة الممارسات الحقوقية في ٩٠ دولة.من الملاحظات المهمة التي أوردها إشارته إلى أن ظهور القادة الشعوبيين في الولايات المتحدة وأوروبا بات يشكل تهديدًا لحقوق الإنسان في بقية أنحاء العالم. إذ من شأن ذلك تشجيع الحكام المستبدين في كل مكان على الاستمرار في البطش وإشاعة الكراهية والتعصب. وهو ما يمثله الرئيس الأمريكي الجديد والأحزاب اليمينية في أوروبا. علق على ذلك كينيث روث المدير التنفيذي للمنظمة الدولية بقوله في افتتاحية التقرير إن جيلا جديدا من الحكام السلطويين والشعوبيين يتقدم الآن في العالم ساعيًا إلى إسقاط مفهوم حماية حقوق الإنسان، ويتعامل مع الحقوق على أنها عائق أمام إرادة الأغلبية. ذلك أن هؤلاء يدعون أن الجمهور يقبل بانتهاكات حقوق الإنسان، بزعم أنها ضرورية لتأمين فرص العمل وتجنب التغيير الثقافي، في حين أن تجاهل حقوق الإنسان يمهد الطريق للاستبداد.اعتبر كينيث روث أن ثمة هجومًا عالميًا على قيم حقوق الإنسان يشمل الدول العربية والإفريقية بطبيعة الحال. ونبه إلى أن الجمهور يتحمل مسؤولية خاصة في صد ذلك الهجوم ومقاومته، من خلال الجماعات المدنية والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام المختلفة.(٢)تحدي المجتمع واستنفاره على أشُدِّه الآن في الولايات المتحدة هذه الأيام التي تسبق تنصيب استلام الرئيس الأمريكي الجديد منصبه رسميا (٢٠ يناير الجاري). وتقود النخب الأمريكية حملة المواجهة الحازمة ضده. وكنت قد أشرت إلى قائمة المعلقين الكبار الذين هبوا لمعارضة سياساته وأفكاره الداعية إلى الكراهية وعدم احترامه للحريات والتعددية وحقوق الإنسان، وأضيف إليهم الاقتصادي بول كروجمان الحائز على جائزة نوبل الذي كتب أخيرًا داعيًا الإعلاميين إلى فضح ما أسماه «أكاذيبه الرخيصة» واعتبر التقصير في ذلك نوعًا من خيانة مهنة الصحافة. وقرأت أن ٢٤ من النواب في الكونجرس سيقاطعون حفل تنصيبه، وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن منظمي التظاهرات المعارضة له حجزوا ١٢٠٠ باص لنقل المتظاهرين الغاضبين إلى واشنطن بعد غد، في مقابل ٢٠٠ باص لمؤيديه. وانضم إلى معارضيه نجوم هوليوود الذين رفضوا المشاركة في حفل التنصيب رغم أنه اتصل هاتفيا ببعضهم لهذا الغرض، وكان بين الرافضين مغنيتان بريطانيتان شهيرتان، إحداهما، ريبيكا فيرجسون التي وصفت الرئيس المنتخب بأنه مستبد، ومن الرافضين أيضًا المغني الأوبرالي الشهير أندريه بوتشيلي، الذي كان قد تلقى اتصالا شخصيا من ترامب. ولا ينسى أن نجمة الأوسكار الأمريكية ميريل ستريب وبخته بسبب توجهاته العنصرية في كلمة ألقتها قبل أيام أثناء تسلمها الجائزة السنوية عن مجمل أعمالها. وشملت حملة رفضه موقع التغريدات القصيرة «تويتر» الذي عاقب الرجل بإغلاق حسابه على المواقع، نظرا لما أسمته الشركة «خطابه العنصري والانقسامي». وعلق بول هورن المتحدث باسم تويتر على الخبر قائلا إن الموقع «لن يتسامح مع مستخدم يوجه رسائل الكراهية والعنصرية والتعصب» ووصف ما يقوم به ترامب بأنه «يعيد بلادنا إلى الوراء».(٣)صحيفة «الأوبزيرفر» البريطانية المحافظة ذكرت في عددها الصادر في ١٣ يناير الحالي أن تنصيب ترامب سيكون «لحظة فزع ونذير شؤم». وهو أمر مقدور عليه في الدول الديمقراطية، التي تتمتع مجتمعاتها بقدر من العافية يمكنها من التعامل مع التداعيات السلبية لظاهرة «ترامب» وتنامي الأحزاب اليمينية في أوروبا. فضلا عن أن الآلة الديمقراطية توفر من خلال تداول السلطة وضع حد لاستمرار الظاهرة وتجنب عواقبها الوخيمة. بالتالي فإن نصيبنا أكبر من «الفزع» الذي تحدثت عنه «الأوبزيرفر» ذلك أن الموقع الإلكتروني الخاص بالحملة الانتخابية لترامب كان قد أعلن أنه يعطى الأولوية للاستقرار حتى لو تم ذلك على حساب القيم الديمقراطية، بدعوى أنها يمكن أن تأتي بنتائج عواقبها غير مضمونة. وهو موقف يعني بصورة مباشرة غض الطرف عن الانتهاكات التي تتم والقمع الذي تتعرض له القوى الداعية إلى الديمقراطية، بدعوى مكافحة التطرف والإرهاب. لاحظت ذلك روبن رايت كاتبة «النيويوركر» حين نبهت إلى أن موقف ترامب لقى ترحيبًا شديدًا من جانب الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، وعززت رأيها بالإشارة إلى قائمة زعماء المنطقة الذين كانوا بين أوائل الذين سارعوا إلى تهنئته بالفوز في الانتخابات.إزاء ذلك فلئن اعتبرت النخب الأمريكية أن انتخابه يعد عارًا أهان القيم الأمريكية، فهو بالنسبة لنا في العالم العربي كارثة كبرى. من ناحية بسبب رعايته للأنظمة القمعية، ومن ناحية أخرى بسبب غلوه في الانحياز لإسرائيل. ثمة وجه آخر للكارثة في أن مجتمعاتنا تعانى الضعف الذي يعجزها عن التصدي لتغول الأنظمة وطغيانها. لذلك فإنه إذا كان تقرير منظمة «هيومان رايتس ووتش» قد ذكر أن حقوق الإنسان في خطر في العالم الجديد، فلا أظن أن أحدًا يمكن أن يجادل في أن الدول العربية ستكون في قلب ذلك الخطر إن لم تكن على رأس ضحاياه.(٤)الحالة المصرية نموذج لما أدعيه. ذلك أن الصراع العلماني الإسلامي جرت صياغته سياسيا على نحو مزق الصف الوطني وحوله إلى صراع بين القوى المدنية والدينية. وعمقت الصراع عوامل عدة حولته إلى صراع وجود أغلق الباب أمام احتمال تعايش الطرفين. وترتب على ذلك أن صارت القوى المدنية على استعداد للذهاب إلى أبعد مدى للقضاء على خصمها الآخر والخلاص منه. لذلك فإنها تحالفت مع العسكر لتحقيق ذلك الهدف. وكان أملها أن تقيم من خلال ذلك التحالف ما أسماه مدرس النظم السياسية الدكتور أحمد عبد ربه «ديكتاتورية تشاركية». (جريدة «الشروق» ١٥/١). وفي تحليله للنتائج التي ترتبت على ذلك ذكر الدكتور عبد ربه ما نصه: في خلال عامين فقط (بين ٢٠١٣ و٢٠١٥) فشل هذا التحول الديكتاتوري التشاركي لأن الفاعلين الأمنيين قرروا لأسباب كثيرة الانفراد التام بالمعادلة السياسية دون إعطاء أي اعتبار لأي وعود سابقة أعطتها للتيارات المدنية التي شاركتها طريق التحول الديكتاتوري منذ البداية ويتذكر الجميع كيف عمدت أجهزة الدولة في هذه الفترة إلى خرق أغلب الأوجه المدنية التي كانت محسوبة عليها بما فيها حتى من أيد بلا شروط أو قيود كل الإجراءات القمعية التي اتخذت منذ يوليو ٢٠١٣ إلى حينه. ثم جاء الفشل الأكبر بأن عجزت هذه المعادلة السلطوية المنفردة عن الإيفاء بالتعهدات الأمنية والاقتصادية للشعب، وسريعا دخلت في مواجهات مع حلفائها الإقليميين بل مع بعض مؤيديها في المحافل ــ انتهى الاقتباس.الانقسام النكد قضى على روح ثورة يناير ٢٠١١ التي ذابت فيها كل تمايزات الصف الوطني، الأمر الذي ألغى دور القوى السياسية وأفرغ الساحة تماما لصالح الأجهزة الأمنية التي تولت هندسة وصياغة الحالة السياسية. وبمضي الوقت اختفى دور النخب السياسية، وما عاد ممكنا الحديث عن تيارات مدنية تدافع عن حقوق المجتمع، وإن بقى في الساحة أفراد يحاولون القيام بذلك الدور، ومن ثم بقيت في الساحة المنظمات الحقوقية التي ما زالت تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه لحماية المجتمع ضد انتهاكات السلطة وتجاوزاتها.الخلاصة أن النخب المصرية، علمانية وإسلامية، تتحمل المسؤولية التاريخية عن موت السياسة والإسهام في إضعاف المجتمع المدني وهزيمته. صحيح أن السلطة القائمة لها دورها الذي لا ينكر في ذلك، إلا أن تلك النخب أعانتها على ذلك. وحين يتاح لنا أن ندقق في سجل المراحل التي تعاقبت بعد ثورة يوليو ١٩٥٢ سنجد أن تغييب الديمقراطية كان له دوره الأكبر في إضعاف المجتمع ونزع عافيته السياسية، حتى غدت النخب المصرية إفرازا طبيعيا للأجواء التي سادت منذ ذلك الحين. الأمر الذي ينطبق عليه تعبير الشوام: هيك نخب جاءت مناسبة تماما لهيك أوضاع. وذلك تاريخ تحتاج وقائعه إلى تحرير ومناقشة لم يتوافر لهما لا الوقت المناسب ولا الشجاعة الكافية.