16 سبتمبر 2025
تسجيلالسلطة القائمة تعبر عن مواقف يبدو منها أنها باتت طرفا في الصراعأفهم أن تنشغل القوى السياسية التقليدية بصراعاتها المستمرة منذ نحو نصف قرن. لكن أستغرب ولا أفهم أن تعبر السلطة القائمة في مصر بعد الثورة عن مواقف يبدو منها أنها باتت طرفا في ذلك الصراع. سأشرح لك كيف ولماذا.معلوم أنه بين الصراعات التي عرفتها مصر وتأججت في ظل ثورة يوليو 52 ذلك الذي وقع بين التيارين الإسلامي والعلماني. خصوصا أن الأخيرين ظلا قابضين على السلطة طول الوقت. وقد أشرت من قبل إلى أن ذلك الصراع تجدد واشتد بعد ثورة 25 يناير مع اختلاف بسيط في التفاصيل. ذلك أنه قبل ذلك التاريخ كانت السلطة هي التي تقود الصراع ووراءها العلمانيون باختلاف فصائلهم. أما بعد الثورة الأخيرة فإن العلمانيين أصبحوا يقودون الصراع ويحاولون بكل ما يملكون من قوة ونفوذ أن يلحقوا السلطة بهم.أدرى أن بعض الإسلاميين ارتكبوا حماقات لا أدافع عنها ولم أتردد في انتقادها. لكنني أزعم أن التناول الموضوعي والبريء ينبغي أن يعطيها حجمها، وأن يفرق في ذلك بين الاستثناء والقاعدة كما ينبغي أن يعاملها بمثل معاملة حماقات الآخرين. فإذا صح مثلا أن آحاد الناس رفعوا العلم السعودي في مليونية 29 يوليو، في حين ذهب عشرات آخرون قبلهم إلى السفارة الأمريكية طالبين حماية الولايات المتحدة، ورفع غيرهم أعلام الشيوعية الدولية في ميدان التحرير. فإن إدانة الجميع تصبح واجبة. أما أن يظل البعض يصرخ تنديدا بالأولين وملتزما الصمت التام إزاء الآخرين، فإن ذلك يعد موقفا لا يمكن افتراض البراءة فيه، حيث فيه من الاصطياد والكيد بأكثر مما فيه من الأمانة والإنصاف.استطرادا أذكر أن المجلس العسكري حين عين واحدا من الإخوان لمهمة مؤقتة في لجنة تعديل الدستور. وخرج بذلك قليلا عن معادلة الإقصاء والاستئصال فإن الدنيا قامت ولم تقعد في أوساط العلمانيين، الذين لا يزالون يلومون المجلس ويبتزونه بسبب تلك «السقطة» (!) أما حين عين في الوزارة الأخيرة ثلاثة من حزب الوفد وواحدا ماركسيا من حزب التجمع وثالث من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وكلهم علمانيون بالمناسبة، فقد قرت أعين الجميع ولم يتفوه أحد بكلمة نقد أو مؤاخذة باعتبار أن ذلك استمرار لسياسة الإقصاء التي كانت متبعة قبل الثورة. وللعلم فإن المجلس العسكري تعلم الدرس من «خطيئة» تعيين العضو الإخواني في لجنة تعديل الدستور، إذ منذ ذلك الحين لم يقع الاختيار على إسلامي واحد في كل التعيينات التي تمت طوال الأشهر الأربعة الأخيرة.ما دعاني إلى استدعاء هذه الخلفية أنني لاحظت تطورا نوعيا خلال الأسبوع الأخير في شكل الاصطفاف الحاصل في مصر، إذ خلال الأشهر التي تعاقبت بعد الثورة كان المجلس العسكري والحكومة التي تخيرها تقفان ـ فيما هو معلن على الأقل ـ على مسافة واحدة تقريبا من التيارات العلمانية والإسلامية المشتبكة. لكن ما صدر من بيانات وتصريحات خلال ذلك الأسبوع الأخير أعطى انطباعا موحيا بأن المجلس العسكري والحكومة أصبحا يرددان مقولات الطرف العلماني، ويتبنيان مواقفه وخطابه ــ أقول لك كيف؟إذا قرأت بيان مجلس الوزراء الذي نشر في 11/8 ستجد أنه يتبنى إلى حد كبير أفكار مشروع ما سمي بالتحالف الديمقراطي الذي تثار أسئلة كثيرة حول هوية ووزن القوى المشاركة فيه وهل هي قوى حقيقية أم شلل مختلفة في قبيلة سياسية واحدة. وهو المشروع الذي سعى إلى إضعاف المادة الثانية من الدستور الخاصة بمرجعية الشريعة الإسلامية للقوانين. ودعا إلى إقحام العسكر في السياسة بحجة الدفاع عن الدولة المدنية. كما أن المجلس تبنى خطاب العلمانيين الذي ادعى أن تظاهرة 29 يناير كانت محاولة لاختطاف الثورة، ولم ير في التظاهرة سوى «ظهور أعلام غريبة عن الدولة المصرية»، واعتبر ذلك مصدرا «للقلق البالغ» الذي سجله بيان المجلس.أيضا إذا دققت في التصريحات التي نشرتها صحف السبت 13/8 منسوبة إلى اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس العسكري، ستجد أنه يتحدث عن إصدار إعلان دستوري جديد في وقت قريب لضمان مدنية الدولة، وعن وثيقة مبادئ حاكمة لاختيار الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور الجديد. وظاهر الكلام يوحي بأن السلطة القائمة بضغط من القوى العلمانية التي فرضت نفسها وصية على المجتمع ستصدر وثيقة إضافية لن تضع خريطة طريق لوضع الدستور الجديد فحسب، ولكنها ستحدد أيضا طريقة اختيار الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور. كل ذلك تخوفا من دور الإسلاميين أو من احتمالات حضورهم. ولا أستبعد إذا ما استمر الاستسلام للضغوط أن تصدر وثيقة لاحقة تحدد مواصفات وهيئة الأشخاص الذين سيشاركون في وضع الدستور فيستبعد منهم ذوو اللحى والمحجبات لضمان مدنية الدولة المرجوة.أختم بثلاثة أسئلة هي: أين ذلك كله من أهداف الثورة؟ ومن حقا الذي يريد اختطافها؟ ثم هل يمكن أن يقودنا فتح الباب لما سمي بالمواد الحاكمة إلى الإبقاء على العسكر في السياسة بحجة الحفاظ على دور «المؤسسة الحاكمة»؟