17 سبتمبر 2025

تسجيل

في أن مراجعة المسار صارت واجب الوقت

14 فبراير 2017

رسائل السخط التي تطلق في الفضاء المصري في أيام الشِّدة الراهنة ينبغي أن تسمع قبل فوات الأوان.(١)نشرت جريدة الأهرام الصادرة يوم ١٢ فبراير الحالي (أمس الأول) إعلانا على الصفحة الأولى بحجم لافت للنظر كان عنوانه كالتالي: شكر وتقدير ــ يتقدم مستثمرو العبور بخالص الشكر وعظيم الامتنان إلى السادة الذين كانوا ١٤ ضابط شرطة يتقدمهم وزير الداخلية ــ أما موضوع الشكر فهو «ما بذلوه من جهود لإعادة الأستاذ فلان (الذي هو من رجال الأعمال)، الذي تم اختطافه وأعادوه إلينا سالما». رسالة الإعلان تقول إن عودة رجل الأعمال إلى بيته سالما صار خبرا يستحق توجيه الشكر وعظيم الامتنان لوزير الداخلية و١٤ ضابط شرطة. وهو أمر لا مبالغة فيه، لأن خطف رجال الأعمال واشتراط دفع فدية لإطلاقهم بات ملحوظا في مصر خلال السنوات الأخيرة، ومشهورة قصة عصابة بورسعيد التي تخصصت في تلك العمليات. وكان أبرز ضحاياهم مستثمر من بنجلاديش. ومن الضحايا المشهورين الذين تحدثت عنهم الصحف المصرية مستثمر سعودي يملك مصنعا للصلصة تم اختطافه مع سائقه في طريق عودته من الإسماعيلية إلى القاهرة. وقيل آنذاك إن خاطفيه طلبوا خمسة ملايين جنيه لتحريره، أما غير المشهورين الذين تعرضوا للاختطاف ثم أخلى سبيلهم بعد دفع الفدية في صمت فأعدادهم غير معروفة، لكنها ليست قليلة على أي حال، أو هكذا تقول الشائعات.لو أنها حوادث استثنائية مما يتعرض له بعض الأثرياء لقلنا إنها مما يحدث في بلاد أخرى، لكنها تحولت إلى ظاهرة لم تعد تؤرق الأثرياء وحدهم، ولكنها باتت تزعج القادرين خصوصا الذين أصبحوا يعيشون في منتجعات الضواحى، وغيرهم من أهالى تلاميذ المدارس الخاصة، الذين أصبح أطفالهم يتعرضون للاختطاف واشتراط دفع مبالغ مالية متفاوتة القيمة لإطلاقهم. حتى أصبحت حراسة أولئك الأطفال في الذهاب والعودة هما يشغل أغلب الأسر.أفهم أيضا أن يكون هناك مجرمون وراء تلك الحوادث، لكن المشكلة تتخذ منحى آخر إذا لاحظنا أن بعض الجناة ليسوا مجرمين ولكنهم فقراء أو عاطلون. وأن الخطف ليس سوى شكل واحد من أشكال الانحرافات التي ظهرت أعراضها في المجتمع. ولم تعد مقصورة على الطبقات المعدمة أو الفقيرة، ولكن عدواها انتقلت إلى الطبقات المتوسطة التي جرى إفقارها في أجواء الغلاء الفاحش الذي أحدث تصدعات اجتماعية غير محسوبة.(٢)للأسف ليست لدينا دراسات يطمأن إليها توثق ما أدعيه. خصوصا أن المسؤولين لا يرحبون بالمعلومات التي تتحدث عن عمق ونتائج الأزمة الاقتصادية في مصر، إذ يعتبرون نشر إحصاءات تفشى الجريمة وانتشار حوادث العنف بسبب الأزمة الطاحنة من قبيل تثبيط الهمم والانصراف عن الإنجازات. وربما كانت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاءات هي الضوء الرسمي الوحيد الذي يوضح لنا بعض مؤشرات الأزمة. آية ذلك أن الصحف الصادرة هذا الأسبوع تحدثت عن ارتفاع معدل التضخم السنوي في شهر يناير إلى ٢٩.٦٪، وفصل تقريرها في نسب الزيادات في أسعار السلع الأساسية من اللحوم والدواجن إلى الخبز والألبان. وأبرزت صحيفة «المصري اليوم» في عناوين عدد ١٣ فبراير تعليق الدكتورة عاليا المهدي العميد السابق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الذي ذكرت فيه أن تلك النسبة من التضخم هي الأعلى في مصر منذ سبعين عاما. الأمر الذي يعنى أن المصريين لم يعرفوا مثل ذلك الغلاء الذي يعانون منه منذ ثلاثة أرباع القرن تقريبا.الأوجه الأخرى للصورة نتعرف عليها من وسائل الإعلام. فالخبراء الاقتصاديون يحذرون من أن القادم أسوأ، فالزيادات في الأسعار سوف تستمر في مجالات حيوية عدة (الكهرباء ومياه الشرب والوقود مثلا) طبقا للاتفاق الذي أبرم مع صندوق النقد الدولي. وهو ما يعني أن معاناة الجماهير سوف تتضاعف، الأمر الذي سيرفع من معدلات العنف والجريمة والفساد أيضا. لأن ملايين الموظفين من ذوي الدخول الثابتة لن يصبحوا قادرين على الاستمرار في الحياة إلا باللجوء إما إلى الجريمة وإما الرشوة. والذين يرفضون السير في ذلك الطريق، أمامهم خيار ثالث له سوقه التي أصبحت رائجة في مصر، التي أصبحت ثالث بلد في العالم تباع فيه الأعضاء البشرية، بعد الصين وباكستان. حتى بات مألوفا أن تنشر الصحف المصرية أخبارا عن اكتشاف عصابات ومستشفيات ومراكز تقوم بتلك المهمة. أما الذين تسد في وجوههم كل الأبواب، فإنهم يلجأون إلى الانتحار يأسا من الحياة، في ظل العجز عن تلبية احتياجات المعيشة أو العجز عن سداد الديون. وبوسع أى باحث أن يرصد تواتر نشر تلك الحوادث في الصحف المصرية بين الحين والآخر.(٣)في الثامن من شهر فبراير الحالي قام أهالي مدينة «القرين» بمحافظة الشرقية باعتراض طريق سيارة نقل تابعة لوزارة التموين، كانت محملة بكميات من السلع الأساسية في مقدمتها السكر والزيت والأرز. وما إن توقفت السيارة حتى اقتحمها الأهالي وقاموا بنهب محتوياتها.الدلالة السياسية للحدث لم تتطرق إليها وسائل الإعلام. لكن الرسالة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي التي أعادت إلى الأذهان ذكرى أحداث ١٨ و١٩ يناير قبل أربعين عاما (عام ١٩٧٧) حين انفجر غضب الفقراء بعد رفع أسعار الخبز فخرجوا في مظاهرات هاجمت بعض المحلات التجارية، وهتفت ضد الرئيس السادات وحكومته. ولا يزال جيلنا الذي عاصر تلك الأحداث يذكر الهتافات التي كان منها: "يا ساكنين القصور الفقرا عايشين في القبور" ، "سيد مرعي يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه" ، "هو (السادات) يلبس آخر موضة وأحنا بنسكن عشرة في أوضة"..إلخ.في تعليقات السوشيال ميديا على الحاصل في مصر هذه الأيام ترددت عبارات انتفاضة الغلابة وثورة الجياع. وقرأت لأول مرة اسم حركة «ضنك» وتصدى أحد المعلقين للفكرة قائلا إن الانتفاضة أو الثورة لا تكون بالضرورة على شكل مظاهرات جماعية غاضبة تهتف وتهاجم المحلات التجارية، لكنها أيضا قد تكون على شكل انتشار الممارسات الفردية التي تعبر عن النقمة والغضب. وخلص صاحبنا من ذلك إلى أن ما يحدث في مصر الآن هو ثورة من ذلك الطراز الأخير، وقد ظهرت بوادرها بوضوح بعد تعويم الجنيه المصري ورفع أسعار جميع السلع. الأمر الذي كان له صداه العنيف في أوساط الطبقة المتوسطة. أما الفقراء باختلاف درجاتهم فإن وقع الصدمة عليهم كان مضاعفا. وهو ما يسوغ لي أن أقول إن المجتمع المصري إذا لم يكن في حالة ثورة فهو على الأقل يمر بحالة القابلية للثورة، وهي ليست ثورة ضد النظام، ولكنها دفاع عن حق الناس في العيش الكريم، وأحسب أن ذلك التحليل ليس غائبا عن السلطة، التي باتت تحظر وتتشدد في منع وقمع أي تجمع بشري في الشارع المصري. وإضافة إلى ما تكفل به قانون حظر التظاهر، فإن القرار الأخير الذي منع التظاهر في محيط ٨٠٠ متر لجميع المنشآت الحيوية، بمثابة خطوة تقطع الطريق على أي تظاهر محتمل في بر مصر، حتى إذا كان سلميا ويحميه الدستور.(٤)حين يصبح السخط والشكوى على كل لسان، ويتواتر الحديث عن تراجع شعبية الرئيس السيسي، فإن التوقف أمام ما يجرى يصبح واجبا، وتغدو مراجعة المسار والخطط أوجب. ولست مؤهلا للقيام بتلك المهمة، لكني لا أشك في أن غيري أقدر على النهوض بها. مع ذلك فربما كان بوسعي أن أسهم في وصف المشهد وقراءته. فقد أثار انتباهي مثلا تصريح المتحدث باسم صندوق النقد الدولي، الذي قال فيه إن انهيار الجنيه المصري بالصورة التي وقعت تم بأسرع مما كان مقدرا. الأمر الذي يعني أن الموضوع لم ينل حقه من الدراسة المسبقة. وثمة اتفاق بين أغلب الخبراء على أن اقتران التعويم برفع الأسعار لم يكن إجراء حكيما، كما إن إنفاق الأموال الطائلة، على المشروعات العملاقة أسهم في إضعاف قوة الجنيه المصري وأدى إلى تبديد رصيد البلد من العملات الصعبة التي كان ينبغي أن تنفق على أوجه أكثر ضرورة وإلحاحا. سمعت من خبراء آخرين أن انتشار تدخل القوات المسلحة في المجال الاقتصادي حولها إلى بديل للقطاع العام حمل مسمى مختلفا. إلى غير ذلك من الأمور التي باتت تستدعى إعادة نظر تصوب المسار وتنقذ السفينة من الغرق.حين يصبح الاقتصاد في أزمة. وتواجه السياسة أزمة مستحكمة جعلت مصطلح «موت السياسة» تعبيرا دارجا ومسلما به، فإن أفق المستقبل يصبح معتما ويفقد المجتمع أهم شروط التفاؤل بالحاضر أو المستقبل. وفي هذه الحالة لا يخفف من وطأة الإحباط المبالغة في التخويف من الإرهاب أو استنفار المجتمع لمتابعة مباريات كرة القدم أو تكثيف برامج المنوعات التي تبثها قنوات التلفزيون أو التهليل الإعلامي الذي يملأ الفضاء بالضجيج.أدرى أن التحديات كثيرة والأعباء جسيمة، وأفرق بين حل المشكلات وبين توافر الثقة والاطمئنان إلى توافر ذلك الحل في المستقبل القريب أو البعيد. وأخشى ما أخشاه أن الذي أصبحنا نفتقده هو الثقة والأمل. خصوصا أننا وعدنا بالانفراج بعد سنتين. ولما لم يتحقق المراد صدرت تصريحات تحدثت عن انفراج بعد سنة أو سنتين أخريين. وقذف البعض بالكرة إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة (في عام ٢٠١٨). وحين تزامن ذلك مع تعالى مؤشرات الأزمة الاقتصادية وارتفاع وتيرة الاحتقان السياسي والتضييق على الحريات، فإن الناس ينبغي أن يعذروا إذا تراجع شعورهم بالثقة ولم يجدوا مبررا للتعلق بالأمل.إن الرسائل الداعية إلى التنبيه والتحذير والمراجعة تنطلق من كل صوب طول الوقت. لكنها لا تجد من يتسلمها أو من يحاسب على تجاهلها وإنكار وجودها. إذ لا قيمة للأجراس إذا لم تجد من يسمعها.