16 سبتمبر 2025

تسجيل

أفغانستان.. الوجه الجديد 10 | باكستان وأفغانستان.. فشل فصل الماء بالعصا

13 أغسطس 2024

تلمس خلال أحاديثك مع المسؤولين الأفغان نبرة الحزن والعتب والاتهام أحياناً للمسؤولين الباكستانيين وسياساتهم تجاه أفغانستان بشكل عام، وتجاه الحكم الجديد بشكل خاص، ولهذا الاتهام مبرراته وسياقاته التاريخية، لاسيما وهو الذي يأتي بعد انضمام الرئيس الباكستاني برفيز مشرف للتحالف الدولي في عام 2001 لخلع طالبان عن السلطة بعد رفضها تسليم زعيم القاعدة أسامة بن لادن التي تراه واشنطن مسؤولاً عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وكبرت كرة الثلج العدائية بين الطرفين إثر انغماس باكستان مشرف يومها بالتعاون الأمني مع أمريكا، حيث سلمت المئات وربما أكثر من المسؤوليين والعناصر الطالبانية للولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها أفغانستان كارزاي، وقد بررت ذلك باكستان على لسان رئيسها برفيز مشرف بتهديد نائب وزير الخارجية الأمريكي يومها ريتشارد أرميتاج الذي هدد باكستان بإعادتها للعصر الحجري إن لم تتعاون في هذا الملف، وهو الأمر الذي نفاه الأخير. واقع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول أرّخ لاستدارة مائة وثمانين درجة في السياسة الباكستانية في أفغانستان، وهي التي كانت تصفها بالحديقة الخلفية، والعمق الاستراتيجي في مواجهة الهند، وقد وصف مشرف نفسه طالبان المتهمة باكستان بتأسيسها لمواجهة أحزاب المجاهدين الأفغان، وصفها مشرف أكثر من مرة بأنها عمق استراتيجي لباكستان، وقد انعكس هذا بشكل عملي وواقعي يوم وصلت المواجهة الهندية ـ الباكستانية إلى قرب مواجهة نووية في كارغيل عام 1999، فدفع ذلك باكستان إلى التفكير بإرسال طائراتها إلى المطارات الأفغانية لتجنب الضربة الجوية الهندية الأولى. تغير السياسة الباكستانية هذه كانت على الصعيد الرسمي فقط، أما على الصعيد الشعبي والقبلي، والحاضنة الباكستانية، فلم تكن مدعومة أبداً وعلى الإطلاق، فقد بدا الأمر مختلفاً تماماً، حيث تجنّد عشرات الآلاف من الباكستانيين للقتال في صفوف طالبان، وانتفضت القبائل الباكستانية المحاذية لأفغانستان لصالح طالبان والقتال في صفوفها، وقد شهدت بنفسي خلال تغطيتي الصحافية الطويلة في المنطقة تلك المظاهر، حيث كان يتسابق الشباب إلى التوجه لسوح المعارك، بالإضافة إلى تبرع النساء بحليهن وكل ما يملكن لصالح إخوانهم البشتون على الضفة الأخرى من خط ديوراند لاين الذي رسمه البريطانيون في عام 1893، ففرّقوا بذلك بين قبائل البشتون، ومن هنا جاء المثل البشتوني إن الماء لا يمكن فصله بالعصا. ونتيجة هذه التفاعلات والاصطفافات الشعبية إلى جانب المقاومة الأفغانية، ظهر خلاف بين القبائل التي خرجت منها طالبان باكستان كقوة عسكرية لا يمكن الاستهانة بها، وساندت طالبان أفغانستان بالرجال وتوفير الإيواء والملاذات لهم على الضفة الباكستانية الأخرى، فكان لهم الدور الأهم في انتصار طالبان أفغانستان، ومن هنا أتى التوتر بين باكستان وأفغانستان، حيث تتهم الحكومة الباكستانية طالبان أفغانستان بتوفير الملاذت الآمنة لهم، وهم الذين ينفذون عمليات عسكرية ضد جيشها وحكومتها. رعت حكومة أفغانستان الجديدة كثيراً من جولات المفاوضات بين الطرفين أملاً في التوصل لهدنة بين الطرفين، لكنها فشلت وتحمل الأوساط الأفغانية بعض الأوساط العسكرية الباكستانية المسؤولية، وتقول هذه الأوساط إن الاتفاق كاد أن يبرم في ظل حكومة عمران خان الذي يواجه السجن بتهم عدة الآن، ولكن تم نسف الاتفاق فجأة لتعود الأمور إلى حالتها المتأزمة، ومربعها الأول. بالتأكيد لا يمكن تبسيط واختزال مسألة التوتر بين البلدين بهذا فقط، وإن كانت خلفية قريبة لفهم ما جرى مهمة، فمقاتلو طالبان باكستان هم نسيج قبلي باكستاني مقيم على الجانب الجغرافي الآخر، وقد لعبوا أدواراً مهمة، شبيهة بأدوار الدولة الباكستانية أيام الجهاد الأفغاني ضد السوفييت، من حيث توفير الملاذ الآمن لمقاتلي طالبان أفغانستان، ودعمهم ومساندتهم في مواجهة القوات الغربية بقيادة أمريكا، وذلك على مدى عقدين كاملين من المقاومة الأفغانية، بينما اصطفت الحكومة الباكستانية الرسمية طوال تلك الفترة إلى جانب القوات الغربية ضد مقاتلي طالبان أفغانستان، إما بدعم القوات الأمريكية، أو باعتقال المقاتلين وشحنهم إلى غوانتانامو، فضلاً عن مهاجمة مقاتلي طالبان باكستان وإجلائهم عن مناطقهم القبلية إلى أفغانستان، وهو الأمر الذي لا يمكن لمقاتلي طالبان أفغانستان أن يتخلوا عنهم، الأمر الذي يذكر تماماً بخسارة طالبان الملا محمد عمر لدولتهم، من أجل حماية أسامة بن لادن، يوم رفضوا تسليمه لأمريكا، فكيف ستُقدم الحكومة الأفغانية على التخلي عن طالبان باكستان الذين وقفوا معها في ساعة العسرة ؟ على باكستان أن تعي تماماً أن مياهاً كثيرة جرت بعد الغزو الغربي لأفغانستان بقيادة أمريكا، وأن تحالفها طوال تلك الفترة ضد طالبان أفغانستان، لا يمكن تناسيه أفغانياً بهذه السهولة، ويحتاج وقت لتندمل تلك الجروح الغائرة، كما على باكستان أن تعي تماماً أن الجيل الأفغاني الجديد في كابول ليس كالجيل القديم الذي كان موالياً لها، ولديها عليه أفضال كثيرة، مما يجعله محكوما بالولاء لها، فالجيل الشبابي الأفغاني الجديد في كابول لا تربطه روابط قوية بباكستان، وإن كانت تربطه، فبمقدار وقوف الشرائح الباكستانية معه في قتاله ضد الأمريكيين، لقد بات هذا معياراً مهماً في الحكم على الجهات التي يتعامل معها الجيل الأفغاني الحاكم. بالمقابل فإن على الحكومة في كابول أن تعي أن التعويل على علاقات تكتيكية مع الدول الأخرى لا يمكن الرهان عليه، يضاف إليه بأن قهر الجغرافيا يفرض على كابول وإسلام آباد الكثير من التعاون وتناسي الخلافات التكتيكية، خصوصاً مع التشاطر العرقي والديني والمذهبي الكبير بينهما، وبجانب هذا تحديات كثيرة يطول الحديث عنها في هذا المقال، فكما قال المثل البشتوني (إن الماء لا يمكن فصله بالعصا).