15 سبتمبر 2025
تسجيلأجواء القطيعة التي خيَّمت على علاقة مصر بقطر تعيد إلى الأذهان معضلة ضبط علاقة السلطة بالمجتمع والإدارة بالسياسة.(١)حين انفجرت الأزمة الخليجية وصارت مصر طرفا فيها وصعد الإعلام المصري لهجة التحريض والهجاء، نشرت صحف الصباح الخبر التالي: قررت مديرية الأوقاف في محافظة البحيرة شطب أسماء القطريين الذين تبرعوا ببناء ٢٤ مسجدا في قرى مركز أبوحماد، واستبدالها بأسماء الله الحسنى. ولم يكن لذلك من تفسير سوى أن الحملة الإعلامية اعتبرت دعوة للنفير العام من جانب السلطة، الأمر الذي دفع موظفي الأوقاف إلى محاولة تسجيل أسمائهم في دفتر الولاء للسلطة والتجاوب معها، ليس فقط لأن من شأن ذلك أن يحسب لهم ولكن أيضا لاقتناعهم بأن معركة السلطة هي معركتهم ومن ثم فإن اصطفافهم إلى جانبها يعد واجبا لا سبيل للتحلل منه. لذلك أشك كثيرا في أن يكون قرار مسؤولي الأوقاف جاء تنفيذا لتوجيهات الوزير المختص، الذي نعلم جيدا أنه سباق في مضمار المزايدة على السلطة والذوبان فيها، وأرجح أن يكون تصرف مسؤولي الأوقاف كان تلقائيا وتم دون توجيه.لم أعثر على تكذيب أو تصويب للخبر، لذلك سأتعامل معه باعتباره صحيحا حتى يثبت العكس. وقد استوقفني لدلالته وليس لذاته، أعني أن إزالة أسماء من تبرع ببناء المساجد من القطريين إجراء عبثي لا قيمة له، لأن من أقام مسجدا لوجه الله لا يهمه ولا يعنيه أن يكتب اسمه على قطعة من الرخام معلقة في مدخله، ولا ينتقص منه أن يمحى الاسم، لأن ثوابه رفع إلى حيث يستعصي المحو ولا تطوله معاول البشر، وإنما فيه إدانة للفاعل وليس للمفعول به، مع ذلك فإن للأمر دلالاته التي تستحق الإثبات، إذ أزعم أننا بإزاء ظاهرة في مصر ولسنا بصدد حادثة فردية، وهذه الظاهرة تتمثل في أن السلطة السياسية حين تتبنى موقفا أو تتخذ إجراء بحق أي طرف مخالف لها حتى نفاجأ بأمرين، أولهما مسارعة أجهزة الدولة ومؤسساتها والحلقات المرتبطة بها إلى التضامن معها في ذلك من خلال تبني الموقف والتفاعل معه والمزايدة عليه، الأمر الثاني يتمثل في استباحة الآخر والذهاب إلى أبعد مدى في الاشتباك معه، وهي المهمة التي تتولاها المنابر والأبواق الإعلامية، التي أصبحت ضمن أسلحة «الدمار الشامل» التي تستخدمها السلطة ضد خصومها، وأقصد بالدمار الشامل في هذه الحالة مهمة الاغتيال الأدبي والسياسي والإبادة الثقافية.(٢)يدلل على ما أدعيه أننا فوجئنا في اليوم التالي لإعلان اشتراك مصر في المعسكر المناوئ لقطر ببيان صادر عن الأزهر اقتحم المشهد وأعلن تأييده مقاطعتها وحصارها. حدث ذلك رغم أننا نعتبر الأزهر منارة وحصنا معرفيا للعالم الإسلامي غير مرتبط بالسياسة المصرية، ثم إن واجبه كمؤسسة دينية أن يظل داعيا إلى التواصل بين مكونات الجسم الإسلامي، وليس التنابز وتشجيع الخصومة والقطيعة بينها. ناهيك عن أن الأزهر لو التزم الصمت ونأى بنفسه عن المشاركة في الخصومة، فإنه لن يحاسب على سكوته ولن يسأل أحد عن موقفه، ناهيك عن أنه سيظل محتفظا بهيبته وقامته، لكن الذين أصدروا بيان تأييد المقاطعة والحصار قبلوا بأن يعد ذلك خصما من رصيد الأزهر، مقابل أن يسجل ذلك نقطة لحسابهم في دفتر السلطة.ما أثار الدهشة في هذا السياق أن الصحف المصرية نشرت أن حزبا مجهولا شكل وفدا من أعضائه للسفر إلى ميونيخ في سويسرا حيث مقر «الفيفا» (الاتحاد الدولي لكرة القدم)، لكي يقدم طلبا عاجلا لسحب قرار تنظيم مونديال كأس العالم لسنة ٢٠٢٢ من قطر، رغم أن الحزب لا علاقة له بالرياضة فضلا عن أنه لا حضور له في السياسة. لست متأكدا من جدية قادة الحزب، الذين أحسب أنهم يعلمون أن الفيفا لا يتعامل مع الأحزاب، لكن الذي أنت فيه أن نشر الخبر استهدف تسجيل نقطة في دفتر الولاء تلتمس الرضا وتعلن الذوبان في السلطة والتضامن معها في الكيد لقطر وتجريحها.الظاهرة ليست جديدة وإن استفحلت هذه الأيام نظرا لتعدد المعارك الصغيرة التي يخوضها النظام القائم، ولعلي رويت في مقام سابق حكاية أجهزة السلطة مع فؤاد سراج الدين (باشا) إذ معلوم أنه بعد ثورة عام ١٩٥٢ انقلبت السلطة على أحزاب المرحلة الملكية وفي مقدمتها حزب الوفد الذي كان فؤاد باشا من قادته. وكان مفهوما أن تطوى صفحة قادة تلك الأحزاب وأن يصبحوا ضمن المنبوذين سياسيا، ولأن فؤاد باشا كان وزيرا للمواصلات يوما ما، فقد منحته هيئة السكك الحديدية بطاقة تخوله حق ركوب القطارات مجانا، وهو عرف كان متبعا مع كل من يشغل ذلك المنصب. وحين أصبح الرجل منبوذا سياسيا ألغيت البطاقة في صمت، رغم أنها لم تكن تمثل أي أهمية له، وبعد أكثر من عشر سنوات، حين تولى الرئيس السادات السلطة وفتح الباب لشكل من أشكال التعددية السياسية سمح القضاء بعودة حزب الوفد مرة أخرى برئاسة فؤاد باشا، حينذاك فوجئ الرجل ذات صباح بأن بطاقة الركوب المجاني للقطارات أعيدت إليه في صمت. ما يعني أن هيئة السكك الحديدية ضبطت نفسها على مؤشر السلطة، إذ سحبت البطاقة حين نبذته، وأعادتها إليه حين رضيت عنه. ولم يكن المعيار هو مدى قانونية التصرف، لكنه كان اتجاهات الرياح السياسية، ومدى الرضى فيها أو الغضب.(٣)بحكم التاريخ وأمر الجغرافيا ظلت قوة السلطة المركزية حقيقة ثابتة وراسخة، إذ منذ فجر التاريخ مارس الفرعون سلطته في ضبط النهر وضبط الناس، وهو من «استخف قومه فأطاعوه» كما يذكر القرآن الكريم، ولأن الدولة المركزية كانت ضرورة حتمية للبيئة الفيضية التي تعتمد في مياهها ــ وفي استمرار حياتها ــ على مياه النيل، فقد كان الطغيان الفرعوني بدوره نتيجة حتمية للدولة المركزية. وبسبب وضعها الجغرافي صارت مصر أول وحدة سياسية وأول دولة موحدة في التاريخ، لذلك فإنها على الأرجح مثلت أول طغيان في الأرض، تضاءل في ظله حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم.ما سبق ليس كلامي، ولكنه تلخيص مركز لوجهة نظر الدكتور جمال حمدان أستاذ الجغرافيا السياسية الأشهر، عرضها باستفاضة في الجزء الثاني من موسوعته «شخصية مصر»، وكنت قد أشرت إلى بعض جوانبها في كتابات سابقة.ظلت قوة السلطة المركزية سمة ملازمة لمختلف مراحل التاريخ المصري، وإن تجلت في أشكال عدة، كان استمرار إعلان الطوارئ من بينها، وكان ضعف الحالة الديمقراطية من تداعياتها. في هذا الصدد يذكر المستشار طارق البشري في كتابه «جهاز الدولة وإدارة الحكم في مصر المعاصرة»، أن مصر خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير عاشت في ظل حالة طوارئ ثابتة، اعتاد عليها جهاز الإدارة وتشكلت في ظلها تجاربه ومهاراته وأساليب إدارته للشؤون العامة وللتعامل مع المواطنين. بمعنى أنه في «ثقافته» الإدارية وبحكم تجاربه وخبراته لم يعد يستطيع الحكم ولا ممارسة مهام عمله إلا في ظل ما تنتجه حالة الطوارئ من سلطات وقدرات غير معتبرة، أي في إطار سلطات طليقة من القيود.إحدى النتائج المهمة التي أفرزتها تلك الخلفية تمثلت في انسحاق جهاز الإدارة وذوبانه في تضاريس القيادة السياسية، بحيث لم يعد خادما للمجتمع وإنما صار خادما للسلطان. وهو ما يفسر لنا المثل الذي ذاع ذات يوم الذي يقول: إن فاتك الميري (عربة السلطة أو قطارها) تمرغ في ترابه. بمعنى أنك إذا لم تصبح جزءا من السلطة، فعليك أن تنتسب إليها بأي شكل من الأشكال، حتى إذا تم ذلك من خلال التمرغ في ترابها.(٤)إذا جاز ما سبق بالنسبة لموقف جهاز الإدارة فإنه لا ينطبق بالضرورة على المجتمع، ذلك أن ثمة شواهد دالة على أن قبضة السلطة السياسية على المجتمع تشتد وتضعف تبعا لمؤشر الحالة الديمقراطية فيه. وهذه الحالة لا تقاس فقط بمعيار هامش الحرية المتاحة للمجتمع وإنما تقاس أيضا بمدى احترام مبدأ الفصل بين السلطات.آية ذلك مثلا أن موقف المجتمع في مصر إزاء السلطة اختلف في المراحل شبه الليبرالية التي مرت بها البلد. إذ لم ينسحق أو يذوب فيها كما حدث مع جهاز الإدارة. فنحن نذكر مثلا أنه في أول انتخابات أجريت بعد دستور ١٩٢٣ (لاحظ أنه صدر بعد خمس سنوات من قيام ثورة ١٩١٩) كان الملك والحكومة وقتذاك معاديين لحزب الوفد، ومع ذلك صوتت الجماهير لصالحه بحيث حصل الوفد على ٩٠٪ من مقاعد البرلمان. ومما لا يكاد يصدق بمعايير زماننا أن رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك (يحيى باشا إبراهيم) هزم في الانتخابات أمام مرشح «أفندي» دفع به سعد زغلول باشا زعيم الوفد لكي ينافسه في دائرة منيا القمح بمحافظة الشرقية. كما نذكر أنه في ظل دستور ١٩٢٣ أجريت ١٠ انتخابات تشريعية كانت ٦ منها حرة ونزيهة ظل حزب الوفد يفوز فيها طول الوقت، وكانت أضعف نسبة تصويت له في انتخابات سنة ١٩٥١، التي حصل فيها الوفد على ٧٠٪ من أصوات الناخبين.العامل المهم في ذلك أن المجتمع كان له حزب يلتف حوله ويرفع صوته في مواجهة السلطة، لكن مشكلة زماننا أننا نفتقد ذلك الحزب في مصر، حيث أغلب الأحزاب إما صنعتها السلطة أو صارت ذيلا لها. وكانت النتيجة أن السلطة انفردت بالمجتمع وتمكنت منه على نحو استعاد نمط علاقات العصر الفرعوني، مع اختلاف وحيد هو أن وسائل الإعلام أصبحت تقوم بمهمة إعادة تشكيل الوعي وتزييفه. كما أنها تولت مهمة محو التاريخ وإعادة كتابته لتمجيد الوضع القائم، وهو الدور الذي قام به أعوان الفراعنة الذين كانوا يمحون التاريخ المكتوب على المسلات، ليكتبوا عليها تاريخ الفرعون الجديد. كانت المسلات الجرانيتية صحف الفرعون القومية!إن المشكلة ليست في شيوع التنافس على غلق السلطة والمزايدة عليها، فذلك عرض لمرض أكبر تمثل في فقدان المجتمع لعافيته وحصاناته الأمر الذي أخضعه للتأميم، وأدخله في طور الانسحاق والذوبان في السلطة.