18 سبتمبر 2025
تسجيلأمام مجلس حقوق الإنسان في جينيف قال المستشار البارز لوزارة العدل الأمريكية إن بلاده ليست دولة مثالية. وتحدث عن وحشية الشرطة في تعاملها مع السود، وعن اعتراف الرئيس أوباما بوجود أخطاء في ممارسات الأجهزة الأمنية ووعده بمحاسبة الضباط الذين تورطوا في الاستخدام المفرط للقوة إزاء المواطنين. وخلال المناقشات فتحت ملفات انتهاكات الحقوق المدنية، والفشل في إغلاق معتقل جوانتانامو، وأساليب التعذيب التي كشف عنها تقرير الكونغرس. كما أثير موضوع مراقبة الإنترنت.. إلى غير ذلك من التفاصيل التي أبرزتها على صفحتها الأولى جريدة الأهرام في عدد أمس (١٢/٥) تحت العنوان التالي: أميركا تعترف: لسنا دولة مثالية.في اليوم الذي سبقه (١١/٥) أبرزت الأهرام أيضا أخبار الانتهاكات التي يعلن عنها في الولايات المتحدة. ووصفت المعلومات التي نشرتها بعض الصحف الأمريكية بهذا الخصوص بأنها فضيحة جديدة للشرطة الأمريكية. خصوصا بعدما أعلن المدعى العام في ولاية فرانسيسكو أنه شكل لجنة لمراجعة أكثر من ثلاثة آلاف حالة اعتقال لأمريكيين سود خلال السنوات العشر الأخيرة.لأول وهلة، حين يلاحظ الباحث اهتمام الأهرام بإبراز أخبار الانتهاكات والاعترافات التي تقر بحدوثها، فإنه لا يستطيع أن يفصل ذلك الاهتمام عن الدور التعبوي الذي تحرص الأهرام على القيام به، إذ المطلوب هو تسويغ ما يجرى في مصر والإيحاء للقارئ بأن الانتهاكات تمارس أيضا في الدول الديمقراطية، ومن ثم فالحال من بعضه ــ كما نقول ــ ولا ينبغي أن يقلقنا أو يزعجنا ما تروج له بيانات الحقوقيين وصيحات المدونين. إلا أن للنشر وجها آخر يستدعى انطباعات معاكسة، ذلك أن المعلومات المنشورة على ألسنة المسؤولين الأمريكيين المشاركين في مؤتمر جينيف تتيح لنا أن نفهم الحاصل في الولايات المتحدة، في حين نظل عاجزين عن فهم الحاصل في مصر على سبيل المثال. ذلك أن الانتهاكات الحاصلة عندنا لا يتحدث عنها سوى مواقع التواصل الاجتماعي والمنظمات الحقوقية المغضوب عليها، والتي اضطرت للاعتذار عن عدم المشاركة في مناقشة الملف المصري بمؤتمر جينيف حتى لا تتفاقم أزمتها مع السلطة، في حين أن الوفد الرسمي المصري الذي حضر آنذاك تبنى موقف الدفاع عن السياسة المصرية، والإنكار للانتهاكات التي تمارسها الأجهزة الأمنية. لقد وجدنا في النموذج الذي بين أيدينا أن مستشار وزارة العدل الأمريكية أدان موقف الشرطة ووحشيتها والكونغرس أعد تقريرا من ٥ آلاف صفحة عن التعذيب، كما أن أوباما وعد بمحاسبة الضباط المتورطين في الانتهاكات، وها هو المدعى العام يطلب مراجعة ثلاثة آلاف حالة اعتقال للسود خلال السنوات العشر الأخيرة. بالمقابل فكل تلك الأمور مسكوت عليها رسميا في مصر. وأي اقتراب منها يصنف بحسبانه إساءة للشرطة ووقيعة بينها وبين الشعب وسعيا خبيثا لإسقاط الدولة.المشهد يستدعى ملاحظتين، الأولى أن الاعتراف بالأخطاء من علامات الشجاعة وقرائن الصدق في محاولة تصحيحها والتطهر من آثارها. في حين أن الذي ينكر ويدارى هو المصر على الخطأ الذي لا يعتزم العدول عنه، والأول هو الأجدر بالاحترام والثقة.الملاحظة الثانية أن الحكم المنصف على أي مجتمع بل على أي شخصية عامة، ينبغي ألا يعول على عنصر واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخصية. لأن نظرية البعد الواحد لا تصلح لتقييم أي وضع مركب. ولأنها تركز على بعد واحد أو وجه واحد للمجتمع أو الشخص فإنها غالبا ما تمثل نوعا من الانتقاء الذي يحجب الأوجه الأخرى. فالحكم على الواقع الأمريكي من زاوية الانتهاكات التي تمارسها الشرطة مثلا يظل تقييما قاصرا ما لم يُضف إليه موقف رأس السلطة التنفيذية وقرارات مؤسسة العدالة، وموقف المؤسسات التشريعية المنتخبة، ومنظمات المجتمع المدني...إلخ.ما دفعني إلى تسجيل الملاحظة الأخيرة أننا كثيرا ما نبرر بعض سوءاتنا وخطايانا وأوجه قصورنا بدعوى أنها حاصلة في مجتمع آخر. وقد يكون ذلك صحيحا، لكن وجه الخطأ فيه أنه يتجاهل مجمل الظروف والعوامل الأخرى التي تتوافر لذلك المجتمع، بحيث تحاصر تلك السوءات وتقلل من خطرها وتقضي عليها في نهاية المطاف.إذا دققنا في الأمر فسنجد أن المشكلة أكبر من مجرد الاعتراف بالخطأ أو إنكاره، لأنها في عمقها وثيقة الصلة بموقفنا من قيمة نقد الذات أو نقد الآخر، التي هي جزء من ثقافة الممارسة الديمقراطية التي نفتقدها. وطالما ظلت الديمقراطية في أزمة، فإن النقد سيظل جريمة دائما، وسيصبح شعار «كله تمام» هو «النقد البناء» المرغوب والمسموح به.