17 سبتمبر 2025

تسجيل

الرأي العام منسيا

13 أبريل 2015

تذكرون قصة الرجل الذي تباهى أمام أصدقائه بأنه ما عاد مشغولا بالقضايا الصغرى التي تشغل محيطه، وأنه تفرغ لمعالجة القضايا الكونية الكبرى. وضرب لذلك مثلا بأنه صار منكبا على معالجة قضايا البيئة وثقب الأوزون والتصحر وسباق التسلح في العالم وألاعيب صندوق النقد الدولي واحتكار الدول الكبرى للقرار في مجلس الأمن...إلخ. ولكي يوضح موقفه أمام سامعيه فإنه أخبرهم بأنه ترك القضايا الصغرى لزوجته تتصرف فيها كما تشاء، من تسلم المعاش وتوفير مستلزمات البيت وتعليم الأولاد وعلاجهم إلى التصييف وتزويج البنات وتأمين الأسرة وغير ذلك.ما فعله صاحبنا كررناه في مصر معكوسا. فأعلنا أنه سيتم استطلاع الرأي العام في مسألة «مهمة» مثل تطبيق التوقيت الصيفي، ودعيت المؤسسات المعنية والمنابر الإعلامية ذات الصلة إلى رصد اتجاهات الرأي العام وتحديد موقف المجتمع من المسألة. وفي الوقت ذاته فإننا تجاهلنا الرأي العام في أمور أخرى «غير مهمة» مثل مشاركة مصر في الحرب الدائرة باليمن، وفكرة إقامة عاصمة جديدة للبلاد، وإعادة تقسيم محافظات وأقاليم مصر، وتخفيض الضرائب على الأثرياء، ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وحزمة القوانين المقيدة للحريات من قانون التظاهر إلى قانون الكيانات الإرهابية مرورا بتعديلات قانوني المرافعات والإجراءات الجنائية.ليست هذه مزحة لأن الكلام كله جاد. ذلك أن جريدة الأهرام نشرت يوم أمس (١٢/٤) خبرا أبرزته على الصفحة الأولى ذكر أن المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء كلف مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بإجراء استطلاع للرأي بين المواطنين بشأن تطبيق التوقيت الصيفي من عدمه، كما أنه ناشد وسائل الإعلام المختلفة التي بها مراكز لاستطلاع الرأي أن تجرى هي الأخرى استطلاعا بهذا الشأن وتوافيه بالنتيجة.ليس عندي شك في حماس وإخلاص المهندس إبراهيم محلب، وليس لدى أي تحفظ أو اعتراض على استطلاع رأى المواطنين في مسألة تطبيق التوقيت الصيفي. لذلك فإن كلامي ليس فيه أي استنكار لما دعا إليه بهذا الخصوص، لكن الغيرة هي التي دفعتني إلى ما ذكرت. أعني أن سؤالي هو كالتالي: إذا كنا مهتمين باستطلاع رأى الناس في مسألة تتعلق بتنظيم أوقاتهم، فلماذا تجاهلناهم في أمور أخرى تتعلق بمصائرهم وحرياتهم؟ ولماذا يصبح استطلاع رأى الناس استثناء وليس قاعدة؟إحدى الإجابات يمكن أن تساق في هذا الصدد أن ثمة أمورا يملكها رئيس مجلس الوزراء بحيث يستطيع أن يبادر أو يتصرف فيها، كما أن هناك أمورا أخرى لا سلطان له عليها، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يقدم أي مبادرة بخصوصها. وهو ما يعنى أن المقامات العليا درجات، فهناك سياسة عليا في البلد إلا أن هناك أيضا سياسة أعلى. وذلك مجرد تخمين بطبيعة الحال، لأننا لا نعرف بالضبط معالم خرائط السلطة، وما هي القيادات أو المؤسسات التي ينطبق عليها الوصف الأول أو تلك التي تنسب إلى المرتبة الأعلى. والملاحظ أن ذلك موضوع يكتنفه الغموض، وتتعدد فيه الاجتهادات. فالصحف تتحدث أحيانا عن مصادر «سيادية» لا نعرف معالمها ولا شخوصها، ثم إننا قرأنا أكثر من مرة تساؤل بعض المراجع عن وجود وهوية فريق الرئيس. وأمس قرأنا للدكتور مصطفى الفقي حوارا في صحيفة «المصري اليوم» ذكر فيه أن الغموض من بين أبرز سلبيات المرحلة، وأعرب عن اعتقاده أن الرئيس السيسي يريد أن يتخذ من جهاز المخابرات العامة ومن رئيسه ونائبه مكتبا له. وفي حواره فإنه رجح «إلى حد كبير جدا» أن يكون لجهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة دورهما الكبير في تشكيل قائمة في حب مصر، التي هي أبرز القوائم التي ظهرت أثناء التمهيد للانتخابات البرلمانية. وهى معلومة تسلط الضوء على تجليات الأزمة التي نحن بصددها. إذ في حين أن قائمة بهذه الأهمية يفترض أن تمثل الرأي العام، فإذا بنا نكتشف أنها في حقيقة الأمر تمثل جهاز الأمن الوطني والمخابرات العامة.إن الرأي العام في المجتمعات الديمقراطية طرف فاعل في الحياة السياسية. وهو الذي يصنع القرار السياسي، وهو الذي يراقب تنفيذه ويحاسب عليه. أما في المجتمعات غير الديمقراطية فالرأي العام في أحسن أحواله متفرج على القرار السياسي وليس صانعا له. وحضوره في الوثائق المكتوبة أضعاف حضوره في آلية صناعة القرار السياسي. إن شئت فقل إنه «البطل» الذي يقرر في المجتمعات الديمقراطية وهو مجرد «كومبارس» يهلل ويصفق في المجتمعات غير الديمقراطية.ليس السؤال هو ما إذا كان الرأي العام يستطلع في هذا الشأن أو ذاك، لأن السؤال الحقيقي هو ما إذا كنا بصدد ديمقراطية حقيقية أم مزورة ومغشوشة. لايكفي في هذا الصدد أن ينص الدستور على أن الأمة هي مصدر السلطات، لأن الالتزام بالنص له آلياته وتجلياته وأخطر شيء أن يقول قائل إن الشعب بانتخابه لأي رئيس يكون قد فوضه في أن يدير شؤونه. لأن الشعب في هذه الحالة لا يمكن أن يكون حشودا خرجت وحناجر هتفت وملأت الفضاء بالصياح والضجيج. وإنما هو مؤسسات تشكلت من خلال انتخابات حرة، وهى التي حددت موضوع التفويض ومدته وراقبت تنفيذه حتى ينتهي أجله. أما استطلاع رأي الشعب بصورة انتقائية في أمور تنظيمية وتجاهله فيما يخص مصيره، فذلك ليس من الديمقراطية في شيء وإنما هو من باب حسن التدبير الذي نعتبره أمرا محمودا، لكنه ليس كافيا ولا شافيا.