16 سبتمبر 2025

تسجيل

من مراجعات خبرة مصر في سنواتها الثلاث

12 يوليو 2016

إذا لم يتح لنا أن نعرف حقيقة ما جرى في ٣٠ يونيو، فلا أقل من أن نحاول تحرير ما جرى بعد ذلك، عسانا نعرف إلى أين نحن ذاهبون. (١) حين صدر التقرير البريطاني عن حرب العراق بعد ١٣ عاما من وقوع الحدث، كان أول ما خطر لي السؤال التالي: ما عدد السنوات التي ينبغي أن تنقضي حتى نعرف حقيقة ما جرى بمصر في ٣٠ يونيو عام ٢٠١٣ ــ أيا كانت الملابسات التي أدت إلى التأخر في إصدار التقرير، فقد كان مستغربا أن تستغرق عملية البحث والتحري ذلك الوقت الطويل. وحين يحدث ذلك في بلد راسخ القدم في الديمقراطية والشفافية، وفي مجتمع قوى بمؤسساته فلك أن تتصور الأجل الذي يمكن أن تستغرقه العملية في مصر، وحالة الديمقراطية فيها كما تعرف، والشفافية فيها من أسرار الدولة، أما هشاشة مجتمعها وهزال مؤسساتها فأنت أدرى به.صحيح أن السير جون تشيلكوت الذي رأس اللجنة أدى عملا جليلا فضح فيه ما جرى في حرب العراق، التي كانت في حقيقتها مؤامرة نسجت خيوطها بين واشنطن ولندن قبل ١٨ شهرا من قرار بريطانيا المشاركة في الغزو، إلا أنه خدم المؤرخين بالمجلدات الاثنى عشر التي أصدرها وضمت أكثر من ٢ مليون و٦٠٠ كلمة، أما الرأي العام فإنه أحيط علما بأمور باتت منسية، بما يعني أن المجتمع أدرك الحقيقة في غير أوانها.لا أعرف متى يمكن أن يتوافر لنا في مصر شيء من ذلك القبيل فيما خص ما جرى في ٣٠ يونيو، أو في الفترة السابقة على ذلك التاريخ. سواء تلك التي أعقبت اندلاع الثورة في ٢٥ يناير عام ٢٠١١ أم في ظل حكم المجلس العسكري أو حكم الإخوان، لكن الذي أعرفه أن تقريرين لتقصى الحقائق أعدا عن أحداث الثورة، وفترة المجلس العسكري، لكنهما وضعا في أقبية الأجهزة الأمنية، التي تولت إعادة كتابة تاريخ تلك المرحلة بما يخدم أغراضها ويحقق مصالحها. أعرف أيضا أن مرحلة حكم الإخوان كتبت من وجهة نظر واحدة صاغتها بدورها الأجهزة الأمنية وعممتها وسائل الإعلام.خلاصة الكلام أن الظرف ليس مناسبا للتعرف على حقائق ما جرى ليس فقط خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بل أيضا أحداث السنتين السابقتين على انتفاضة يونيو ٢٠١٣. كما أنني أشك كثيرا في أن جيلنا سيشهد مرحلة إدراك تلك الحقائق. (٢) لي عدة ملاحظات على الحوارات التي جرت خلال الأسبوع الماضي بخصوص دولة ما بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣، إحداها عن الشكل والأخريات في الموضوع. ملاحظتي على الشكل خلاصتها أن الحوار كله تقريبا دار حول ما حدث في مصر بعد ذلك التاريخ. وبدا ذلك تعبيرا عن حالة الانكفاء على الداخل التي خيمت على الإدراك المصري خلال السنوات الأخيرة. وقد استغربت ذلك، لأن أصداء ٣٠ يونيو في العالم العربي لا تقل قوة ولا جسامة عن نظيرتها في داخل مصر. ذلك أن التحول الذي حدث آنذاك استقبل في الخارج بحسبانه هزيمة للربيع العربي، أدت إلى إنعاش عناصر الثورة المضادة في المنطقة وفتح الباب لتدخلات إقليمية سارعت إلى الانقضاض لإجهاض حلم التغيير الذي راود الشعوب العربية في طول البلاد العربية وعرضها. وحين يكتب تاريخ تلك المرحلة بنزاهة وحياد، سندرك أن أحداث ٣٠ يونيو قوت من ساعد حركات العنف التي التحق بها بعض الشباب المتدين الذي فقد الأمل في جدوى التغيير السلمي والتحول الديمقراطي. سنتعرف أيضا على تأثير تلك الأحداث على رفع مستوى الجرأة والطموح لدى الإسرائيليين، بعدما اطمأنوا إلى أن مصر انشغلت بالحرب ضد الإرهاب عن مواجهة التهديد والاحتلال الإسرائيلي. وهو ما أدى إلى إضعاف القضية الفلسطينية، وسمح لإسرائيل بالادعاء بأنها صارت تقف في مربع واحد مع معسكر «الاعتدال العربي» لمواجهة الإرهاب، بل وسمح لها بأن توسع من اختراقها للعالم العربي والجهر بالعربدة في أرجائه.ربما أتاح لنا ذلك أن نعرف أيضا كيف أثر الحدث الذي شهدته مصر في مسار الصراع بالمنطقة، بحيث تحول من شوق إلى العدل والحرية، إلى صراع ضد الإسلام السياسي واقتتال مذهبي بين السنة والشيعة، وكيف ترتب على ذلك الحدث أن مصر انسحبت من الساحة العربية جراء انشغالها بالصراع الداخلي، وأحدث ذلك فراغا تمددت فيه إيران حتى وصلت إلى اليمن وتغولت في سوريا. (٣) الذين خرجوا في الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ رفعوا شعار الدولة المدنية في مواجهة ما وصفوه بالدولة الدينية التي كان حكم الإخوان رمزا لها، لكنهم اكتشفوا بمضي الوقت حقيقة أنهم استدعوا الدولة الأمنية في نهاية المطاف. وكان الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء الأسبق أبرز الذين أثاروا هذه النقطة، في مقالته التي نشرتها له جريدة «الشروق» (عدد ٤/٧) وحاول فيها الإجابة عن السؤال: هل أخطأ التيار المدني بالمشاركة في ٣٠ يونيو؟في إجابته ذكر أن ما جرى تسميته في ٣٠ يونيو بالتيار المدني لم يكن كتلة واحدة، بل هو توافق واسع ومؤقت بين كتل وتيارات متنوعة جمعها قاسم مشترك هو الرغبة في إسقاط الحكم الإخواني. وفي رأيه أن التيار المدني لم يخطئ بالمشاركة في ٣٠ يونيو، وكان خطؤه أنه لم ينجح في الاستمرار في توحده، واعتبر أنه «لا يوجد تناقض بين معارضة ذلك التيار لحكم الإخوان وبين الاستمرار في معارضة ما يلمسه الآن من مظاهر الاستبداد والتضييق على الحريات وإهدار دولة القانون».في مرافعته أغفل الدكتور زياد أمرين، أولهما أنه لا يوجد في مصر ما يمكن أن يسمى "تيار مدني حقيقي"، ولكن هناك أشخاصا يؤمنون بالدولة المدنية والديمقراطية، وهؤلاء لم ينجحوا في تأسيس ما يمكن أن يسمى تيارا يمثل قوة مجتمعية قادرة على التأثير في القرار السياسي. وإذ أشار إلى هذا المعنى في مقالته، إلا أنه ظل يتحدث عنه باعتباره «تيارا» يشكل ما وصفه بالمعسكر الديمقراطي، الذي هو في حقيقة الأمر عناصر نخبوية لا حضور لها على أرض الواقع.الأمر الثاني الأهم الذي أغفله أن التحالف الذي تشكل في ٣٠ يونيو وراهن فيه رموز التيار المدني على المؤسسة الأمنية والعسكرية لإحداث التغيير المنشود كان بمثابة الخطوة الأولى على طريق إقامة الدولة الأمنية التي يدعو إلى معارضتها الآن، وهو ما يقتضي مراجعة المصطلح الرائج بهذا الخصوص، فالرموز التي شاركت في التحالف وأيدت وبررت مختلف الانتهاكات التي تمت بعد ذلك التاريخ تخلت عمليا عن شعاراتها الديمقراطية، وكان انحيازها إلى العلمانية أكبر بكثير من التزامها بالدولة المدنية. إذ أثبتت التجربة أن خصومتها للإسلام السياسي كانت ومازالت العنصر الحاكم لموقفها. وإذا كانت بعض الشخصيات قد ظلت على وفائها لقيم المجتمع المدني والديمقراطية، فإن ذلك يعد استثناء من القاعدة. والاستثناء لا حكم له كما يقول الأصوليون. (٤) ما جرى أفضى إلى نتيجتين أولاهما تمثلت في انتهاء عصر الحكم المدني. والحكم الذي أعنيه لا يرتبط فقط بالزي الذي يرتديه صانعو القرار السياسي، وإن كان لذلك دلالته، وإنما الأهم من ذلك أنه يتجلى أيضا في فكرة تعدد المؤسسات والفصل بين السلطات، الأمر الذي يحقق التوازن بين السلطة والمجتمع، والوضع الراهن في مصر يعاني الأمرين، حيث تعاظمت مركزية السلطة وغاب دور المؤسسات، حتى أصبح القرار السياسي لغزا يصعب تفسيره أو فهمه ويستعصي التعرف على آلياته وخلفياته، وملف القرارات السياسية والاقتصادية والمشروعات التي وصفت بأنها عملاقة حافل بالنماذج التي تشهد بذلك.النتيجة الثانية التي آل إليها الوضع في مصر الراهنة مترتبة على الأولى وتتمثل في موت السياسة، ولعل سؤال «أين الأحزاب؟» الذي طرحه رئيس تحرير «الشروق» الأستاذ عماد الدين حسين في عموده اليومي (عدد ٧/٤) يلخص الفكرة التي أتحدث عنها. ذلك أنه يبدو مفارقا ومدهشا أن يشير موقع الهيئة العامة للاستعلامات الرسمية إلى وجود أكثر من ٨٥ حزبا في مصر الراهنة، ثم يطرح السؤال: أين الأحزاب؟! ــ وهي لقطة يختزلها قول الشاعر: أفتح عيني على كثير لكني لا أرى شيئا، وحين يحدث ذلك فإنه يذكرنا بنموذج أحزاب «الديمقراطيات الشعبية الاشتراكية»، التي هي جزء من الديكور السياسي الذي تتجمل به الدولة ولا تعول على وظيفة له.هذا الغياب لدور الأحزاب مفهوم في تقاليد الدولة الأمنية، ولا أظن أن دعوة الأستاذ عماد حسين للحكومة أن تساعد الأحزاب المدنية كي تصبح «قوية وفاعلة» تمثل علاجا صائبا للأزمة، ذلك أن المشكلة تكمن فيما تمثله تلك الأحزاب من ناحية، وفي المناخ والبيئة السياسية التي لا تستسيغ ولا تتحمل التعددية السياسية والمشاركة المجتمعية من ناحية ثانية.من المفارقات أن بعض الأصوات التي تتحدث باسم الأحزاب العلمانية وهي ترفع شعار المدنية والديمقراطية أصبحت تتعامل بتأفف وقرف شديدين مع الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. إذ اختزلت المرجعية الأخيرة في الإخوان ــ وهذا غير صحيح ــ ثم اعتبرت أن الأحزاب العلمانية هي الممثل الشرعي الوحيد للحلم المصري، وتلك أكذوبة أخرى. لأن من ينكر الهوية الإسلامية للمجتمع المصري لا يختلف كثيرا عمن يحاول حجب قرص الشمس بكف يده. وقد قرأت لأحدهم أخيرا قوله إن الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ظلت «تتسول» اعتراف القوى المدنية والديمقراطية بأنها تنتمي إليها. وبدلا من الدعوة إلى إطار يسع الجميع وتحترم في ظله قيم الديمقراطية وقرار الأغلبية، فإن تلك الأصوات تستقوي بالمؤسسة العسكرية والأمنية وتدعو إلى ديمقراطية الإقصاء والاستثناء. وذلك يضعنا إزاء موقف عبثي تدعو فيه الأحزاب الوهمية إلى إقامة ديمقراطية وهمية.