19 سبتمبر 2025

تسجيل

مجرد مصادفة

12 مارس 2014

هرع الناخبون الفرحون جدا إلى مراكز الاقتراع في وقت مبكر من الصباح. فأحاطوا بها وهم يرتدون ملابسهم التقليدية الزاهية، حيث ظلوا يرقصون ويعزفون الموسيقى تعبيرا عن بهجتهم بالفرصة التي أتيحت لهم للتعبير عن حبهم للزعيم الذي يحتل مكانة عزيزة في قلوبهم. ليس فقط لأنه يجسد رمز الرئيس الأبدي للبلاد، ولكن أيضا لأنه يعد القائد الأعلى للقوات المسلحة. وما فعلته الجماهير الفرحة تكرر مع حشود رجال القوات المسلحة، الذين تجمعوا في حلقات ظلت تردد الأناشيد والهتافات للزعيم المحبوب الذي يقود سفينة الوطن بإخلاصه وحكمته. قبل أن يلتبس الأمر على أي أحد أنبه إلى أن الوصف أعلاه يخص الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، وأن العبارات سابقة الذكر وردت في تقرير وكالة الأنباء الرسمية الكورية، كما تضمنها تقرير مصور بثه الموقع الإلكتروني لصحيفة «الجارديان» البريطانية يوم الأحد الماضي 9/3. وتحدث فيه بعض الكوريين عن حبهم ودعمهم المطلق للزعيم الشاب الذي صار رمزا للتلاحم بين الجيش والشعب. كانت المناسبة أن الزعيم المحبوب لم يكتف بالمناصب العديدة التي يتولاها، ولكنه أيضا قرر أن يختبر حب الشعب له، فرشح نفسه لعضوية المجلس التشريعي الذي يطلق عليه اسم «مجلس الشعب الأعلى». وهذا المجلس لأنه «الأعلى»، فهو يجتمع ليوم واحد مرة أو مرتين في العام، باعتبار أن أعضاءه مطمئنون إلى أن حكمة الزعيم كفيلة بتسيير دفة الأمور في البلد على أفضل وجه طوال العام. لذلك فإن مهمته تقتصر على أمرين أولهما اعتماد الموازنة العامة، وثانيهما المصادقة على قرارات مجلس العمال، الذي يضم قيادات الحزب الشيوعي الحاكم. وكان المجلس الأعلى قد عقد آخر اجتماع له في شهر أبريل من العام الماضي (2013) وصادق فيه على مرسوم إعلان كوريا الشمالية دولة نووية. الانتخابات النيابية هذه تجرى مرة كل خمس سنوات. ولا يقصد بها اختيار ممثلي الشعب ولكن تعيين الأشخاص المرضي عنهم الذين يمارسون الوصاية على الشعب خلال تلك الفترة. ولأن الأمر كذلك فالانتخابات لا تجري فيها أي منافسة. ولكن حزب العمال الشيوعي الحاكم يتولى من جانبه ترشيح شخص واحد لكل دائرة (عدد الدوائر 687). وعلى الناخبين أن يصوتوا بنعم أو لا على بطاقة الاقتراع. وتكون الرسالة المضمرة في ذلك هي أن المرشح الذي يعلن عنه هو الشخص الذي يريده الحزب لتمثيل الدائرة في مجلس الشعب الأعلى. لذلك فقد صار معروفا سلفا أن قائمة الحزب التي أعلنت هي التي ستقود البلاد خلال السنوات الخمس التالية. ولأن الأمر كذلك فإن الدارسين المهتمين بمتابعة الأوضاع في كوريا الشمالية. يستعينون بقائمة المرشحين (الناجحين سلفا) للتعرف على طبيعة المتغيرات السياسية في البلاد، من خلال رصد أسماء الصاعدين والتعرف على اتجاهات الذين تم إسقاطهم من قوائم الترشيح. ورغم أن قوائم المرشحين تعد ذاتها قوائم الناجحين إلا أن وسائل الإعلام الرسمية لا تكف قبل إجراء الانتخابات عن حث الناس على المشاركة في أداء ذلك «الواجب». وتستخدم في ذلك مختلف أساليب التعبئة والحشد. وعادة ما يستخدم الشعر في هذه الحملة من خلال بث قصائد «تحريضية» عنوانها: أمواج العواطف والسعادة! الانتخابات «النيابية» التي تمت يوم الأحد الماضي هي الأولى من نوعها منذ تولى الزعيم الحالي كيم الثالث للسلطة، بعد وفاة والده كيم جونج ايل في شهر ديسمبر من عام 2011. وقد خلف الأخير أباه مؤسس الدولة الشهير كيم ايل سونج الذي مات في سنة 1994. وفي شريط الفيديو المصور لاحظنا أن صور الأب والجد معلقة على جدران غرفة التصويت. وشاهدنا بعض قادة الجيش وهم يؤدون التحية العسكرية للزعيمين الراحلين قبل أن يودع كل منهم ورقة التصويت في صندوق «الاقتراع». الزعيم الحالي كيم جونج أون يمارس سلطة الرئيس المطلقة لكنه لا يوصف بأنه رئيس لأن المنصب محجوز للجد المؤسس (كيم ايل سونج) الذي يعد طبقا للدستور «الرئيس الأبوي» للبلاد. وقد رشح صاحبنا نفسه نائبا عن الدائرة 111 التي تقع في جبل بيكتو القريب من الحدود الصينية. وهذه الدائرة تعد موقعا «مقدسا» في كوريا الشمالية، لأن الجد كيم ايل سونج أقام فيه معسكرا للمقاتلين خلال النضال ضد الاستعمار الياباني لكوريا. وتشير رواية رسمية إلى أن ذلك الأب كيم جونج ايل ولد في ذلك الموقع عام 1942. ورغم أن القانون لا يلزم المواطنين بالاقتراع إلا أن المناسبة تستخدم في إحصاء السكان. لأن الموظفين المكلفين بتنظيم الانتخابات يزورون كل منزل للتأكد من وجود الناخبين المسجلين أو غيابهم. لأن البعض يهربون إلى كوريا الجنوبية أو الصين. وهو الأمر الذي تعرف الأسر كيف تتحايل عليه بأساليب عدة منها دفع رشاوى للموظفين أو الادعاء بأن الغائبين يعملون في أماكن أخرى. بعد إجراء الانتخابات يوم الأحد. تم فرز الأصوات في الدائرة على الفور، وظهرت النتيجة قبل منتصف الليل، وأعلن أن الزعيم المحبوب حصل على 100٪ من الأصوات، وأن أحدا لم يتخلف عن التعبير عن حبه له وثقته فيه. وفي صباح اليوم التالي هرع الناخبون الفرحون إلى الشوارع معبرين عن ابتهاجهم بالنتيجة! ملحوظة: التزامن بين الانتخابات التي فاز فيها الزعيم المحبوب في كوريا الشمالية وبين فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية المصرية مجرد مصادفة، أرجو ألا تحمل بما لا تحتمل.