16 سبتمبر 2025

تسجيل

فضيحة في المحكمة

11 أغسطس 2011

مراحل الضعف السياسي والانكسار الحضاري تصيب البنية الثقافية في مقتلما شاهدناه في محاكمة الرئيس السابق كان مثيرا وخاطفا للأبصار لا ريب، لكن ما سمعناه كان جارحا للآذان. لا كلام لي فيما رأيناه لأن الصور وفَّت وكفَّت فضلا عن أن الجميع تحدثوا في هذا الشق، لكن الذي سمعناه من المحامين سكت عليه كثيرون، رغم أنني أعتبره فضيحة تستحق الإثبات والمراجعة. ذلك أنه من بين نحو عشرين محاميا تحدثوا أمام المحكمة فإن واحدا فقط هو الأستاذ فريد الديب تحدث بلغة عربية سليمة، أما الباقون فإن لسانهم العربي بدا عاجزا ومشوها على نحو مذهل. إذ إن مستواهم في التعبير اللغوي لم يكن يتجاوز مستوى تلاميذ المدارس الإعدادية.كنت أحد الذين صدموا في لغة المحامين. ذلك أنني لأسباب يطول شرحها ــ بعضها يتعلق بالخبرة المهنية في سكرتارية التحرير ــ أستشعر وخزا كلما سمعت خطأ لغويا، وأعتبر أن مثل هذه الأخطاء تشكل عدوانا وإهانة للهوية العربية. لكنني سكت يومذاك. إذ وجدت أنه من غير المستساغ أن أخرج القارئ من أجواء محاكمة مبارك وما استصحبته من أصداء في داخل مصر وخارجها، لأشغله بالفضيحة اللغوية التي تجلت في كلام المحامين. من ثم فقد تجرعت الحزن واختزنته، لكن الوجع ظل قائما. إلا أن حوارا بثته الإذاعة البريطانية يوم الاثنين الماضي 8/8 أخرجني من هذه الحالة. ظل أن مذيعة أحد البرامج سألت ضيفها الذي كان صحفيا مقيما في لندن منذ 30 سنة عن رأيه في تدهور المستوى اللغوي للمحامين المصريين الذي ظهر أثناء جلسة محاكمة الرئيس السابق.. فوافقها الرأي وقال إنها ظاهرة شائعة في أوساط الأجيال الجديدة من المثقفين. نبهني الحوار إلى أن بث وقائع الجلسة على الهواء أثار فضول الملايين في العالم العربي وخارجه، الأمر الذي أتاح للجميع أن يتابعوا كلام المحامين وأن يتعرفوا على الفضيحة بأنفسهم. وهو ما يعني أن دائرة الفضيحة شملت كل الناطقين باللغة العربية، بقدر ما صدمت الغيورين على الفصحى الذين لا أشك في أن أحدا منهم لم يكن يتصور أن يصل التدهور اللغوي بين خريجي الجامعات في «الشقيقة الكبرى» إلى تلك الدرجة من التدني والقبح.لا أعرف إلى أي مدى فوجئ العالم العربي بلغة المحامين المصريين. لكن الذي أعرفه أنها ليست مشكلة المحامين وحدهم. ولكن المحامين مجرد «عينة» لمستوى خريجي الجامعات، الذين انتقلوا من الأمية اللغوية التي حصلوها في مراحل التعليم السابقة. إلى مستوى آخر من الأمية في الجامعات التي لا توجه أي عناية للغة العربية، بل إن بعض كلياتها أصبحت تتباهى بأنها فتحت أقساما «أرقى» تدرس باللغات الأجنبية، وطلابها وطالباتها ينظرون بدونية إلى زملائهم الذين يدرسون باللغة العربية.إذا تتبعنا المشكلة في عمقها فسنجد أن انحطاط اللغة الفصحى له أسباب عدة من بينها اتصاله الوثيق بتراجع مؤشرات الاعتزاز بالهوية والكبرياء الوطني. ولذلك فإن انحطاط اللغة يظل من تجليات الانحطاط الثقافي والهزيمة الحضارية. ولذلك قيل إن اعوجاج اللسان علامة على اعوجاج الحال.إن مراحل الضعف السياسي والانكسار الحضاري تصيب البنية الثقافية في مقتل، بذات القدر الذي تضعف فيه مراكز العافية الأخرى في المجتمع. لذلك فإن تدهور التعليم يصبح ضمن أخطر تلك الانهيارات، ذلك أنه لا يقوض الحاضر فقط لكنه يدمر المستقبل أيضا ــ من هذه الزاوية أزعم أن الأداء البائس للمحامين يظل أحد القرائن التي تدين عهد مبارك، وأن أولئك المحامين أصبحوا من حيث لا يدرون شهودا على انحطاط عهده الذي لم تصغر فيه مصر فقط، ولكنها مسخت وتشوهت أيضا.حين انهار التعليم في مصر، لم ينحط مستوى الإحاطة باللغة العربية ولا ضعف مستوى الخريجين فقط، ولكن أدى ذلك إلى انتعاش المدارس الأجنبية التي باتت تهدد وجود العربية الفصحى ذاته. وفي الوقت الراهن فإن كل أبناء القادرين جرى احتلال لسانهم باللغة الإنجليزية إلا من رحم ربك بطبيعة الحال. واستمرار هذا الوضع يجعلنا نتشاءم كثيرا بالمستقبل، الذي أزعم أن الفصحى ستلقى فيه ضربات قاصمة وقاضية.في أجواء الهزيمة ينتعش المتغربون ويجترئ الغلاة والمتعصبون الذين يعادون العربية الفصحى ويحتقرون شأنها. ولدينا في مصر من بات يبث برامج تليفزيونية ونشرات إخبارية باللهجة العامية، في عداء سافر للعربية الفصحى وللهوية التي عبر عنها. وقد بلغ احتقار العربية والازدراء بها حدا جعلنا نقرأ في إعلان قبيح نشر أكثر من مرة في شهر أبريل الماضي أن الشبكتين بؤا (بقيا أو أصبحا) شبكة واحدة والفرحة بَئِت فرحتين!إن احتقار اللغة عار يعبر عن التصاغر واحتقار الذات.