17 سبتمبر 2025

تسجيل

أصداء لحظة الحقيقة

11 يونيو 2015

صادمة ومفجعة الصور التي نشرت عن أوضاع المستشفيات المصرية، ذلك أن كثيرين منا لم يخطر على بالهم أن يكون الواقع بائسا ومزريا إلى تلك الدرجة التي صعقتنا. وكان رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب أولنا، حين قام بزيارة لاثنين من المراكز الطبية في القاهرة، ولم يصدق ما رأته عيناه من إهمال وتدهور. حتى طلب من وزير الصحة أن ينقل مكتبه إلى أحدهما (معهد القلب) وأن يدير وزارته من هناك. وحين ارتطم الرجل بالحقيقة وذاع الخبر فإن الأطباء لم يقصروا في دق الأجراس ولفت الأنظار إلى الحالة الكارثية التي وصلت إليها الأوضاع في المستشفيات والوحدات الصحية الحكومية. وقادت نقابة الأطباء حملة دق الأجراس، التي شارك فيها ١٤٠ ألف طبيب حتى أمس. وهو ما أتاح لنا أن نرى بأعيننا الأبنية المتهالكة والأسرة المحطمة ودورات المياه التي تأفف منها الحيوانات. والكلاب الضالة والقطط و"المعيز" والحشرات التي ترتع في أروقة المستشفيات.. إلى غير ذلك من مظاهر اللامعقول التي تعشش في أبنية ذلك المرفق المهم والخطير، كأنما شاءت المقادير أن تكشف الحملة عن الآثار المباشرة التي خلفتها سنوات الفساد والإهمال والظلم، التي اعتنت فيها السلطة بالمنتجعات والمشروعات العملاقة واحتمت بشرائح الأثرياء والمستثمرين أصحاب الصوت العالي والثروات الكبيرة. ومن ثم نسيت الملايين الذين لا صوت لهم ويكافحون لكي يوفروا لقمة العيش لعيالهم.الصدفة وحدها فتحت أعيننا على الكارثة، إذ لولا الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الإسكان لمعهد القلب لما انفضح الأمر. وإذ يقدر المرء الجهد الكبير الذي يبذله المهندس إبراهيم محلب في محاولته تحريك المياه الراكدة ومحاربة التراخي والإهمال، فإننا لابد أن نقرر أن الرجل يقوم بعمل يفترض أن ينهض به غيره. وأن رئيس الوزراء إذا كان مضطرا لأن يذهب بنفسه لتحريك عجلة العمل في مختلف المجالات بالكفاءة المرجوة، فإن ذلك يعني أن ثمة فشلا ذريعا من جانب أجهزة الإدارة والرقابة، ناهيك عن أن تلك مهمة مستحيلة، وحتى إذا كانت ممكنة فهو ليس مطالبا بها، حيث يفترض أن يقوم بدور المايسترو أو المدير الذي يقود فريق الوزراء الذي يرأسه. أما أن يطوف بنفسه على المستشفيات والمجمعات والطرق والكباري، فمعنى ذلك أنه لن يدير، وسيغرق في بحر التفاصيل، مع افتراض أنه امتلك طاقة خارقة مكنته من ذلك.أتابع الجهد الذي يبذله الرجل بخليط من مشاعر التقدير والإشفاق والقلق، الأمر الذي يدفعني إلى تسجيل الملاحظات والأسئلة التالية:* إن الصور الكارثية التي طالعناها إذا كانت قد سجلت المدى الذي بلغه تدهور الخدمات الطبية في المدن المصرية الكبرى وعواصم المحافظات، فإنها لابد أن تثير قلقنا الشديد على مستوى الخدمات في القرى والنجوع البعيدة التي لا يمر بها الوزراء والكبراء ولا تصل إليها وسائل الإعلام إلا إذا حلت بها كارثة.* إن مشكلات القطاع الصحي لن تحل بنقل الوزير مكتبه إلى أحد المراكز الطبية، وإنما تحل من خلال فتح الملف وتحديد عُقده ونواقصه بالتعاون مع النقابة المنتخبة من الأطباء، إذ إلى جانب مشكلات الأبنية والتجهيزات، فإن أوضاع الأطباء وهيئات التمريض تحتاج إلى معالجة شاملة، فلا يعقل مثلا أن يزيد الراتب الشهري لأمين الشرطة على راتب الطبيب، ولا يعقل أن يتقاضى الطبيب ثلاثين جنيها كبدل عدوى في حين يمنح القاضي ثلاثة آلاف جنيه بدل علاج.* إنني أخشى أن نتعامل مع ما جرى باعتباره فرقعة تنسى بمضي الوقت، أو تحصر الاهتمام بالمستشفيات الحكومية وحدها، وننسى أن تدهور أوضاعها هو أحد أوجه تدهور الخدمات كلها. ولو أن رئيس الوزراء زار أي مدرسة في الصعيد أو الدلتا مثلا، فإنه سيخرج بانطباع مماثل لما اكتشفه حين زار معهد القلب.* إن التدهور الحاصل في جميع مجالات الخدمات إذا كان قد نشأ في غياب الرقابة التي يفترض أن تمارسها أجهزة الإدارة، فإننا لا نستطيع أن نعفي أجهزة الحكم المحلي والرقابة الشعبية من المشاركة في المسؤولية عنه، إذ حين تراخت أجهزة الإدارة وغابت الرقابة الشعبية أو فسدت، فلم يكن مستغربا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه في الصحة والتعليم والإسكان وغيرها من الخدمات التي تجبى الضرائب أساسها لتوفيرها للناس بما يحفظ إنسانيتهم وكرامتهم.* إن لحظة الحقيقة التي كشفت عنها زيارة رئيس الوزراء إذا أخذت على محمل الجد، فينبغي أن تمثل نقطة تحول في النظر إلى الأولويات وتوجيه الموارد. وطالما أنه ليس لدينا برلمان يحاسب ويراقب وتعتمد من جانبه السياسات والخطط، فليتنا نشكل غرفة عمليات تتبنى رؤية واضحة للتعامل مع قطاع الخدمات، فتتولى تقصي حقائق مجالاته المختلفة والتعرف على الاحتياجات اللازمة للنهوض بها لتوجيه الموارد وإعادة النظر في أوجه إنفاقها، بدلا من تبديدها في مهرجانات دعائية ومشروعات عملاقة ندخل بها سباق الوجاهة الذي نحن في غنى عنه.أحيانا يخطر لي أن الخدمات التي تقدم إلى عموم الخلق في كل مجتمع هي المعيار الحقيقي لقيمة الإنسان في ذلك المجتمع. وأحزنني أن أستخدم ذلك المعيار وأطبقه على الصورة المزرية التي رأيناها في المستشفيات.