19 سبتمبر 2025
تسجيلهل كانت الثورة ضد توريث الابن أم أنها كانت ضد الأب ونظامه الذي ضاق الناس به؟ ليس هذا سؤالا في التاريخ، ولكنه سؤال في صلب الرؤية السياسية للنظام الجديد. وإذ بدا أننا تجاوزناه بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على الثورة، فإن الكلام الأخير للمشير السيسي مع الصحفيين يعطي الانطباع بأن السؤال يحتاج إلى حسم، وأن الإجابة التي قدمها بحاجة إلى مراجعة وتصويب.في النصين اللذين نشرا في جريدتي الأهرام والشروق يوم 8 مايو أنه "كان منتهى الأمل قبل ثورة 25 يناير (عام 2011) ألا يتم التوريث"، وقد وردت الجملة بهذه الصيغة في الصحيفتين، وهو ما أزعم أنه حكم ناقص الصياغة ويفتح الباب للالتباس وسوء الفهم. هو ناقص لأن إسقاط مشروع التوريث لم يكن غاية المراد، وإنما كان في أحسن فروضه أحد الأسباب التي أججت غضب الناس وأشعرت المجتمع المصري بالمهانة، ولا يشك أحد في أن الجميع كانوا مدركين أن قضية التوريث فرع عن أصل تتمثل في سياسة مبارك وجماعة المنتفعين به ومنه، وفي فساد النظام واستبداده، الدليل الحاسم والمباشر على ذلك أن الثورة لم ترفع آنذاك شعار «لا للتوريث»، ولكنها ركزت على العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ولأن المشهد لا يزال حيا في الذاكرة فإن أحدا لا يستطيع أن يدعي بأن إسقاط التوريث كان المطلب الأساسي، بل إن إسقاط النظام كان الهدف وإقامة نظام جديد ينشر الحرية والكرامة ويحقق العدل الاجتماعي كان غاية المراد، ولأن الأمر كذلك فإنني أخشى أن تفتح العبارة التي نسبت إلى السيسي في لقائه مع رؤساء تحرير الصحف الباب للتأويل وإساءة الظن، والادعاء بأن المشكلة كانت مع الوريث وليست مع النظام، ولست أشك في أن ذلك التأويل يمكن أن يتعزز بقرائن أخرى مشهودة في الوقت الراهن، منها عودة بعض رجال مبارك وأبواقه إلى الظهور في المجال العام والإعلامي منه بوجه أخص ومنها استعادة الداخلية لأساليبها القديمة في التعذيب والقمع وتلفيق القضايا.ليست خافية أهمية استجلاء هذه النقطة وحسم الموقف منها، ليس فقط للفكرة المبتسرة التي تعبر عنها، وليس فقط لأنها بمثابة قراءة خاطئة لأسباب وأهداف الثورة، ولكن أيضا لأن الكلام منسوب إلى رئيس قادم من حقنا أن نتساءل عن هوية نظامه ومقاصده. وما إذا كان سيقدم حلا لمشكلة التوريث أم سيقيم نظاما جديدا يستلهم أهداف الثورة ويسعى لتحقيقها.ما سبق يمهد لنقطة أخرى مثيرة للالتباس والقلق في كلام المشير السيسي، تتعلق بالموقف من الديمقراطية، ذلك أنه انتقد استدعاء صور موجودة في ديمقراطيات غربية مستقرة منذ مئات السنين ومحاولة إسقاطها على واقعنا. وقال إن إقامة ديمقراطية حقيقية في مصر تحتاج وقتا قد يمتد إلى عشرين عاما. كما أنه تحدث عن ثنائيات الديمقراطية والأمن القومي، والديمقراطية والفقر، والديمقراطية والإقصاء، وجاءت إشارته موحية باحتمال التعارض بين تلك الثنائيات، الأمر الذي يستلزم في الوقت الراهن تقديم خوض المعارك ضد الفقر والإرهاب والدفاع عن الأمن القومي، مع تأجيل الاستحقاقات الديمقراطية. وفي حديثه إلى رؤساء تحرير الصحف تطرق إلى حرية التعبير والنقد، وانتقد ما اعتبره تجريحا للمسؤولين، قائلا إنه «بدلا من التجريح يمكنك أن تهمس بما تريد في أذن المسؤول».هذا الكلام بدوره يفتح الباب، واسعا للالتباس في أمر ينبغي أن يكون واضحا ومحسوما، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنه يشكك في صدق الموقف من الديمقراطية، سواء فيما خص استحقاقاتها أو علاقتها بالفقر والأمن القومي والإرهاب.في هذا الصدد فإنني لم أفهم المقصود بالديمقراطية الكاملة التي علينا أن ننتظر عشرين عاما لكي نبلغها، أولا لأنه لا يوجد شيء اسمه ديمقراطية كاملة الأوصاف، لأنها كتجربة بشرية لها فضاؤها ومفاسدها، والأولى اضعاف الثانية، ذلك أننا نتحدث عن مناخ للحرية يحميه القانون ولا يقيده، ونتحدث عن دولة تفصل بين السلطات وتديرها المؤسسات التي تحترم القانون والدستور، ونتحدث في المساواة بين المواطنين وعن حقهم في المشاركة والمساءلة وتداول السلطة. وهذه ليست اكتشافات جديدة، ولا هي أمور غريبة على مصر. ذلك أن بعضها عرفته الخبرة السياسية المصرية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ثم إننا ينبغي ألا نفترض تعارضا بين الديمقراطية وبين الفقر أو والأمن القومي أو مكافحة الإرهاب، لأن السعي لاستكمال البنيان الديمقراطي يمكن أن يتم بالتوازي مع النضال على الجبهات الأخرى، ناهيك عن أن الديمقراطية يمكن أن تكون عنصرا مساعدا على تحقيق الإنجاز على تلك الجهات الموازية، وثمة خبرات في ممارسات الديمقراطيات المعاصرة تمكن الإفادة منها في هذا الصدد.أخيرا فإنني أقف على طول الخط ضد تجريح المسؤولين أو السياسيين، لكنني أتحفظ على فكرة أن يكون البديل هو الهمس في آذانهم، وأعتبر أن احترام أدب الحوار وتقاليده هو البديل الصائب، الذي يمكن أن ترعاه المؤسسات المعنية. وأذكّر بأن القرآن انتقد النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر من موضع، ومن ثم كرس وخلّد فكرة النقد العلني الذي هو من علامات العافية إذا ما تم بأصوله وأدبه.. غدا بإذن الله لنا كلام آخر في قراءة خطاب السيسي.