18 سبتمبر 2025
تسجيلبعد الذي جرى للسيدة حميدة صابر عطوة يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: كم مواطنا مصريا ينبغي أن يموت لكي تنتبه الحكومة إلى خطورة تدهور الخدمات الصحية وتوليها ما تستحقه من أولوية واهتمام؟ أما قصة السيدة فقد نشرتها أغلب الصحف المصرية، وأغلب الظن أنها ستنسى بعد أيام قليلة. وللتذكرة فهي أم فقيرة في السابعة والخمسين من عمرها، داهمتها أزمة في التنفس فذهب بها ابنها مرزوق عبدالمنعم الحافظ (٢٦ سنة) إلى طبيب محلي، ما إن رآها حتى طلب نقلها إلى مستشفى بني سويف العام لإدخالها إلى غرفة العناية المركزة. لكن المستشفى لم يكن جاهزا لاستقبالها بسبب خضوعه للتطوير، كما قيل، فتم تحويلها إلى مستشفى ناصر المركزي الذي رفض أطباؤه استقبالها بحجة عدم وجود مكان لها. لم يجد ابنها مرزوق حلا فقرر الذهاب بأمه العاجزة عن التنفس إلى قسم شرطة ناصر لكي يحرر محضرا ضد الطبيب ومدير المستشفى الذي رفض استقبالها وتقديم الإسعافات الأولية اللازمة لها. لكن القدر لم يمهله لأنه ما إن وصل إلى مقر قسم الشرطة حتى سقطت الأم على الأرض وفارقت الحياة. أحدث النشر صداه في دوائر عدة، فقرأنا عن تحقيقات أجرتها جهات عدة لتحديد المسؤولية عن الوفاة. لكن ذلك كله لن يغير مما جرى شيئا، فضلاً عن أنه يجدد التنبيه إلى مدى التدهور الذي يعاني منه القطاع الصحي، الذي يدفع الفقراء ثمنه من حقهم في الحياة. حالة حميدة صابر ليست الأولى من نوعها. فقصص الفقراء كثيرة الذين لا يملكون ثمن الدواء ولا مكان لهم في المستشفيات العمومية والذين يطردون من المستشفيات لعجزهم عن الوفاء بتكلفة الإقامة، هذه القصص متداولة طول الوقت على مواقع التواصل الاجتماعي. صحيح أن المادة ١٨ من الدستور تتحدث بنصوص صريحة عن حق كل مواطن في الرعاية الصحية وواجب الدولة ومسؤوليتها عن النهوض بذلك المرفق. كما تحدثت عن التزامها بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن ٣٪ من الناتج القومي للخدمات الصحية (ما بين ٧٥ و٨٠ مليار جنيه)، لكن واقع الحال لا علاقة له بالكلام المكتوب على الورق. ذلك أن نصيب العلاج في الواقع العملي لم يتجاوز ١.٧٪ من الدخل القومي (في الولايات المتحدة ١٧٪ وفي إنجلترا ٩٪). سألت نقيب الأطباء الدكتور خيري عبدالدايم في الموضوع فأثار في رده النقاط التالية: • إن تدهور الخدمات الطبية في المستشفيات الحكومية حقيقة لا يجادل فيها أحد، والذين يلجأون إلى تلك المستشفيات وأغلبيتهم الساحقة من الفقراء هم ضحايا ذلك التدهور. والسبب الرئيسي في ذلك يرجع إلى ضعف الاعتمادات المخصصة للرعاية الصحية في الموازنة العامة، وهو ما يؤثر على الإمكانات التي تتوافر للمستشفيات والظروف التي يعيش في ظلها الأطباء. فحين يخصص للعلاج ٥.٥٠٪ من الميزانية بينما تطالب النقابة بنحو ١٥٪، فلا يستغرب أن تتدهور الخدمات، خصوصاً أن الأسعار زادت من العام الماضي إلى الحالي بنسبة ١٥٪ إلى جانب أن سكان مصر يزيدون بمعدل ٢ مليون شخص كل عام. • إن ثمة قصورا شديدا في أسرَّة الطوارئ ومستلزمات غرف الإنعاش، كما أن هناك قصورا هائلا في الحضانات، وهو ما يضع المستشفيات في موقف حرج للغاية، حيث تضطر إما إلى الامتناع عن استقبال بعض الحالات الطارئة وكذلك استقبال المواليد الجدد. • إنه من بين ١٥ ألف وحدة صحية محدودة الإمكانات، هناك ٥٠٠ وحدة لا يوجد بها أطباء. وهذه الوحدات الأخيرة تتوزع على المناطق النائية. التي يسكنها فقراء المصريين. وهؤلاء لا توجه إليهم أي رعاية طبية. وفي عيادات الأسنان فإن الكرسي الواحد يفترض أن يستخدمه طبيب واحد، إلا أن الكرسي عندنا يستخدمه ٣٠ طبيبا. • طبقا للقانون فإن جميع المستشفيات العامة والخاصة ملزمة باستقبال حالات الطوارئ وتقديم الإسعافات اللازمة لها بالمجان خلال الثماني والأربعين ساعة الأولى للمرض أو الوجع. وبعد القيام بما يلزم يفترض أن ترسل المستشفيات فواتير العلاج إلى وزارة الصحة التي تتولى تسديد قيمتها. ولكن بسبب نقص الموارد أو بسبب الروتين أو للسببين معا فإن الوزارة تتسلم الفواتير ولا تقوم بالسداد. وإزاء امتناع الوزارة عن السداد فإن المستشفيات الخاصة على الأقل توقفت عن استقبال حالات الطوارئ والمستشفيات العامة تقاعست عن ذلك. وتكون النتيجة أن غير القادرين لا يجدون سبيلا للعلاج، ولذلك فإن وفاتهم بسبب ذلك تصبح نتيجة طبيعية ومفهومة. هذه المعلومات اتفقت مع ما قاله الدكتور حمدي السيد النقيب السابق الذي أضاف أن كلفة السرير في المستشفيات الخاصة تتجاوز ألف جنيه في اليوم. وحين تتحملها أي مستشفى في حالات الطوارئ ثم تمتنع وزارة الصحة عن سداد فواتير العلاج فإن امتناعها عن استقبال مرضى الطوارئ غير القادرين ـ رغم أنه موقف غير إنساني ـ ينبغي أن يكون متوقعا. وفي رأيه أن قدرة الدولة على الوفاة بالتزاماتها معلقة على زيادة مواردها المالية، وذلك شرط لن يتحقق إلا إذا استقر الأمن في البلاد. الخلاصة أن الصورة أكثر تعقيداً مما نظن وأن أمل الفقراء في أن تشملهم رعاية الدولة الصحية يتعذر تحقيقه في الأجل المنظور، أساساً بسبب ضعف الموارد المالية التي خصصت لذلك القطاع. مع ذلك فلدي ملاحظتان أخيرتان هما: • إن المشكلة لا تكمن فقط في شح الموارد، ولكن ينبغي الاعتراف بأن هناك مشكلة أيضا في عدالة توزيع ما هو متوافر من تلك الموارد. لأن ما ينفق على مؤسسات وقطاعات الأمن يعطي انطباعا بأن الشح حاصل في قطاعات دون أخرى. ولو أن بعضه وجه إلى الخدمات التي تقدم للناس لكان ذلك أحكم وأعدل. • إن إسهام المجتمع المدني في ذلك القطاع مطلوب بشدة. ولابد أن يذكر أن الجمعية الشرعية بذلت جهدا رائدا في هذا المجال، ليته يصبح مثلا تحتذيه منظمات أهلية أخرى. كي لا تتكرر مأساة حميدة صابر مرة أخرى. ذلك أن موتها على باب قسم الشرطة سيظل عاراً في جبيننا جميعاً.