18 سبتمبر 2025
تسجيلما من مسؤول يتحدث في مصر الآن إلا ويضع عنوان استعادة الأمن على رأس أولويات خطابه. وهو ما فعله رئيس الوزراء الجديد المهندس إبراهيم محلب في أول حديثه وجهه إلى المصريين (الأحد 2/3). وذلك تقدير صحيح لا ريب، لا يستطيع أحد أن يزايد عليه أو يختلف معه. إلا أنني حين وجدت أن رئيس الوزراء احتفظ بوزير الداخلية الحالي في منصبه، رغم أن اسمه يرتبط في الأذهان بأكبر عمليات قتل واعتقال وتعذيب بعد الثورة، أدركت أن مفهوم استعادة الأمن بات يحتاج إلى تحرير وضبط. إذ بدا أن المراد به تشديد القبضة الأمنية والاستمرار في النهج القائم الذي ينتهي بالأحكام المتعسفة. الأمر الذي يعنى أن فكرة استتباب الأمن باتت مرتبطة في الرؤية السياسية الراهنة باستمرار القمع. وهو ما دعاني بعد تشكيل الوزارة إلى القول بأنها لا تعني أي تغيير في السياسات على الأقل في المسألة الأمنية، التي لم تتغير فيها حتى الوجوه.فكرة تعليق استتباب الأمن على استمرار القمع مغلوطة وخطرة. هي مغلوطة لأنها تنبني على اجتماع ضدين ونقيضين. ذلك أن القمع يولِّد المرارة والخوف. ثم إنها خطرة لأنها تشيع الكراهية وتزرع بذور الثأر التي لا تنبت إلا عنفا. إذ العنف يستدعي مزيدا من العنف، والقمع يعلم الناس دروسا في القمع. لذلك قيل إن كل حكومة تشكِّل المعارضة التي تستحقها. فإذا اتبعت سياسة التسامح واللين واحترام القانون، فإن أداءها يدفع الناس إلى اتباع النهج ذاته من حيث إنها في هذه الحالة سوف تستخرج من الناس أفضل ما فيهم. وإذا اتبعت سياسة البطش والقهر والظلم، فإنها لن تستخرج من الناس سوى أسوأ ما فيهم. ذلك أنها حين تحكم فإنها تؤدى دورا آخر غير منظور يتمثل في أن أداءها وتحيزاتها تربي الناس وتؤثر في قيمهم وأخلاقهم. وهو ما اختزلته عبارة الإمام على بن أبى طالب التي قال فيها الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم. في التمثل والتلقي والتقليد.هذه الفكرة صاغها الفيلسوف الفرنسي هلفيتيوس في القرن الثامن عشر حين قال: إن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد. فالشعب لا يؤثر في طبيعة السلطة، وإنما تؤثر السلطة في خصائص الشعب وأخلاقه. وذهب في ذلك إلى القول بأن السلطة مسؤولة عن مساوئ الشعب، كما أنها مسؤولة عن محاسنه. فالسلطة التي تقدم على الابتزاز ويتمتع أقطابها بامتيازات استثنائية لابد وان تخلف جهازا مرتشيا، والسلطة التي تتعامل مع الشعب بطريقة فاشية، فإن جهازها لابد وأن يكون فاشيا. وتلك التي تنتهك القانون وتتلاعب به، ينبغي ألا تتوقع من الناس أن يحترموا القانون أو يبالوا به.إن القمع والظلم لا ينتج أمنا، ووحدة العدل الكفيل بذلك. من ثَمَّ فإن سفينة الوطن لن يقدر لها أن ترسو على بر الأمن والسلام إلا إذا اهتدت في ذلك بالعدل الذي يطهر النفوس من بذور العنف ونوازع الانتقام والثأر. ولئن قيل أن العدل أساس الملك، فإننا لا نذهب بعيدا إذا قلنا في المشهد الذي بصدده إن العدل أيضا أساس الأمن.وإذا قال قائل في معرض الرد على ما أدعيه انه لا تسامح مع الإرهاب الذي فعل كذا وكذا، فأغلب الظن أن انفعاله في هذه الحالة خلط عليه الأمور، بحيث لم يدرك المقصود بما أدعو إليه. لأن الاحتكام إلى العدل يعنى أن يعاقب المذنب على ما قدمت يداه، وأن يخلى سبيل البريء. وأرجو ألا أكون بحاجة إلى الإشارة إلى ما يقتضيه العدل في معاقبة المذنب لكي يلقى ما يستحقه. كما أرجو أن نتخلى عن ابتذال مصطلح «الإرهاب»، الذي صار عند البعض وصمة تلاحق كل من يعارضنا برأيه وربما كل من لا يعجبنا في مظهره. لأن الاحتكام إلى معايير القانون، ضوابطه كفيل بتبديد أي التباس يثور في هذا الصدد.أما إذا استعبط أحدهم وأبدى موافقته على الفكرة ثم استدرك قائلا إنه ليس هناك قمع أو ظلم، فإنني أحيله إلى البيان الذي أصدرته في 12 فبراير الماضي 16 منظمة حقوقية مستقلة في مصر. وتضمن ردا مفحما على دعاوى إنكار القمع والظلم التي ترددها المصادر الأمنية وأبواقها الإعلامية. وإذا فاته ذلك فشهادات الضحايا موجودة على الإنترنت. ومن ساوره شك بعد ذلك فليحتكم إلى ضميره حين يقارن بين الحكم بالسجن لمدة 3 سنوات على قناص العيون الذي استهدف الثوار وبين الحكم على طلاب جامعة الأزهر المتظاهرين 17 سنة لكل متهم، وليسأل نفسه بعد ذلك عما إذا كان ذلك من قبيل الظلم أو العدل.لست في صدد الإدانة أو الاتهام، لكنني فقط أردت أن أنبه إلى أن مسألة استعادة الأمن باتت تحتاج إلى تعريف وتحرير، وأن السياسات الأمنية المتبعة إذا استمرت على النحو الحاصل الآن فإن الاستعادة المنشودة ستصبح هدفا بعيد المنال وسرابا نسمع عنه ولا ندركه.أذكر أخيرا بقصة خليفة المسلمين عمر بن عبدالعزيز الذي تلقى رسالة من أحد الولاة عبر فيها عن حاجته إلى العون لإصلاح الحصون التي تهدمت في حين أن الخراج قل، فرد عليه قائلا «حصن ديارك بالعدل». وهى عبارة جديرة بأن نستلهمها فيما نحن بصدده بحيث نقول لمن يهمهم الأمر: «أمِّنوا دياركم بالعدل».