18 سبتمبر 2025
تسجيلالعنوان أعلاه ليس لي، ولكنه شعار لحملة أطلقها أبناء أسوان لمقاطعة «اللحمة» وتحدي جشع التجار الذين صاروا يرفعون أسعارها كل حين. وسواء كانت البداية بمبادرة شخص أو توافق عدة أشخاص، فالشاهد أنها ما إن أطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي حتى أحدثت صداها في المجتمع المحلي، فتجاوب معها كثيرون، وصارت خبرا نشرته جريدة «الشروق» في عدد ٤/٨. النتيجة لم تعرف بعد وهي مهمة لا ريب، لكن الفكرة هي الأهم، وهي تعبر عن مؤشر للحيوية يستحق الحفاوة والتقدير. ذلك أننا عادة ما نشكو من سلبية الناس وغياب المبادرات الشعبية. وهي الظاهرة التي خلفتها عقود تهميش المجتمع وتضخم دور السلطة التي نصبت نفسها حينا من الدهر باعتبارها القدر المكتوب وصانع المصير الذي تطلق يده في الأمر والنهى. الأمر الذي أدى إلى انسحاب المجتمع من المجال العام بصورة تدريجية، ومن ثم تعطلت لديه ملكة الإرسال وشاع بين شرائحه أن دورها مقصور على الامتثال والاستقبال. وهي الظاهرة التي تضخمت بمضي الوقت، بحيث صرنا بإزاء مجتمع الرعايا الذين تسوقهم السلطة، محتكرة القرار وليس مجتمع المواطنين الذين يتدالون على السلطة ويشاركون في صناعة القرار. وفي هذه الأجواء أعيدت صباغة المفاهيم والقيم السائدة، بحيث أصبح الانصياع والصمت والخوف وإعذار السلطة وتبرير ممارساتها من الفضائل التي تحمد في «المواطن الصالح». شباب أسوان الذين أطلقوا مبادرتهم كسروا القاعدة وقرروا أن يتبنوا موقفا شجاعا وحازما في مواجهة التلاعب والجشع. لم ينتظروا توجيها من السلطة أو تنسيقا مع الأمن ولم يتحدثوا عن رعاية من أي مسؤول في الدولة، وتخيروا قضية اجتماعية تهم كل بيت في أسوان وفي مصر كلها، ومن ثم خاضوا معركتهم ضد جشع التجار. وكان جيدا ومثيرا للإعجاب أن محافظ أسوان السيد مصطفى يسري شجع الحملة وأعلن تضامنه معها، حيث ذكر الخبر المنشور أنه بدوره قرر مقاطعة اللحوم البلدية في الفترة المقبلة. مما ذكر في هذا السياق أن المحافظ فور بدء الحملة أجرى اتصالا مع قائد المنطقة الجنوبية العسكرية لدعم المحافظة باللحوم الداجنة والبلدية من خلال جهاز الخدمة الوطنية، حيث قامت القوات المسلحة بتوريد ١٥ طنا من الدواجن وخمسة أطنان من اللحوم إلى المحافظة، لتباع بنفس الأسعار المدعمة والمخفضة التي كان معمولا بها خلال شهر رمضان. وستتم عملية البيع من خلال منافذ القوات المسلحة تحت إشراف قطاع أسوان العسكري، وهو الدعم الذي يفترض أن يستمر خلال الفترة المقبلة. ما جرى في أسوان يستدعي عدة ملاحظات، منها ما يلي: < أنه يذكرنا بأن فكرة المبادرات الشعبية لم تندثر تماما في مصر، لكنها تحتاج إلى تشجيع في بيئة مواتية يستحضر فيها دور المجتمع الفاعل من خلال المجالس النيابية والنقابية والمحلية مثلا، إلا أن قبضة السلطة المركزية والتوجس الأمني يشكلان عقبتين أساسيتين في ذلك. < أن دور محافظ أسوان مقدر لا ريب، لكنني أسجل تحفظا على إشغال القوات المسلحة بتوريد اللحوم والدواجن من خلال المنافذ التابعة لها. وأنه يحمد ذلك الدور لكنني أخشى أن يؤدي التوسع فيه إلى صرف انتباه القوات المسلحة عن واجبات أساسية تعد لها ولا بديل عنها إزاءها، في حين أن حكاية توزيع اللحوم والدواجن يمكن أن تنهض بها جهات أخرى مثل المجمعات الاستهلاكية، التي تعد تلك المسألة في صلب مهماتها. < بالمناسبة فإننا في غمرة الأحداث المحيطة نسينا أو تجاوزنا فكرة المجتمع المدني الديمقراطي الذي كان عنوانا رئيسيا ومهما في الفضاء السياسي المصري خلال السنوات الأخيرة. ورغم أن هذا الموضوع لم يعد يثار في خطاب أغلب المثقفين المصريين لأسباب مفهومة، فإن ما حدث في أسوان ذكرنا بالفكرة، وبالدور الذي يتعين أن يقوم به المجتمع من خلال مؤسساته لصناعة حاضره ومستقبله. ورغم تواضع الرسالة التي تلقيناها من أسوان في هذا الصدد، فإنها تظل بمثابة ضوء مرسل من أقصى صعيد مصر يذكرنا بما نسيناه. وهو ما قد يسوغ لنا أن نقول بأن ما توقعناه من القاهرة جاءته أسوان وما تجاهلته حسابات النخبة ظل حيا في قاع المجتمع. < لا أستطيع أن أكتم ملاحظة أخيرة تتعلق باستقلال الثروة السمكية في مصر، خصوصا أن أسوان مطلة على بحيرة ناصر التي قرأنا أن الأسماك الوفيرة توحشت فيها حين لم تجد من يصطادها، كما أن المرء لا يستطيع أن يخفي استغرابه حين يعلم أن المملكة المغربية التي لا تتجاوز شواطئها على البحر ثلاثة آلاف كيلو متر تصدر للعالم الخارجي أسماكا بقيمة ثلاثة مليارات دولار سنويا، في حين أن مصر التي تمتد شواطئها بطول ١٢ ألف كيلو متر تعاني أزمة في اللحوم وتستورد أسماكا وحيوانات بحرية أخرى من مستنقعات بعض الدول الآسيوية. لشباب أسوان علينا حق الشكر لما فعلوه ولما ذكرونا به، وليتهم يواصلون إثبات حضورهم بمبادراتهم وهو ما قد يسوغ لنا أن نقول بأن الله يضع سره في أبعد خلقه (عن القاهرة).