16 سبتمبر 2025
تسجيلشعرت بالقلق حين قرأت في صحف الصباح أن القمة الإسلامية الاستثنائية التي عقدت في جاكرتا اعتبرت فلسطين قضية المسلمين «المركزية». إذ رغم سعادتي بالصياغة اللغوية التي عبر عنها الرئيس الإندونيسي في كلمته التي ألقاها نيابة عنه وزير الخارجية في افتتاح المؤتمر يوم الأحد الماضي (٦/٣) فإنني خشيت أن يقتبس العالم الإسلامي نهج «المركزية» المطبق في العالم العربي، الذي هتفنا له يوما ما، لكن هتافنا ظل معلقا في الفضاء ولم نجد له أثرا على الأرض. لذلك لست أخفي أن شعورا بالانقباض أصابني حين وقعت على التصريح، لأنني كنت أراهن على براءة مشاعر التضامن في العالم الإسلامي، على الأقل بالنسبة للقدس، ظنا مني أنه ظل متحررا من مفعول «المركزية» التي جرى تسويقها في العالم العربي، إلا أن الأمر اختلف بعد إطلاق الشعار في افتتاح قمة جاكرتا.لست مازحا فيما أدعيه، لأن مختلف الأدلة والقرائن تؤيده. ولن أذهب بعيدا، لأن القمة الاستثنائية ذاتها تشهد به. ذلك أنه كان مقررا عقدها في المغرب خلال شهر ديسمبر الماضي، إلا أنها اعتذرت عن استقبالها لأسباب لم تعلن، لكننا فهمنا من اعتذارها لاحقا عن استضافة القمة العربية أنها لم تعد مقتنعة بجدوى العمل المشترك عربيا أو إسلاميا. أو كما قال بعض المعلقين المغاربة فإن الرباط أدركت أن شروط نجاح القمة ليست متوافرة في العالم العربي، فضلا عن أن القرارات المصيرية التي تخصه أصبحت تتخذ خارج حدوده. ويبدو والله أعلم أن ذلك لم يكن رأي المملكة المغربية وحدها، ولكنه موقف بعض الدول العربية المهمة الأخرى. الدليل على ذلك أن القمة الإسلامية المفترضة لم ترحب بها أي عاصمة عربية، وحلت إندونيسيا الإشكال حين عرضت استضافتها.أفتتح هنا قوسا وأذكر بحالة مماثلة وقعت قبل ثلاثين عاما. ذلك أن نفرا من المثقفين والحقوقيين العرب تنادوا في عام ١٩٨٣ إلى عقد مؤتمر لتأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان. وحاولوا إقامة المؤتمر في القاهرة أو في أي عاصمة أخرى إلا أن طلبهم ووجه بالرفض. فما كان منهم إلا أن عقدوه في العاصمة القبرصية ليماسول في شهر ديسمبر من ذلك العام. وكان ذلك إعلانا ضمنيا عن الموقف السلبي للعواصم العربية إزاء قضية حقوق الإنسان.صحيح أن عقدت قمة فلسطين والقدس في جاكرتا ومن ثم نقل الملف إلى الفضاء الإسلامي لا يخلو من فائدة إعلاميا وسياسيا لأن إندونيسيا أكبر دولة إسلامية (سكانها ٣٠٠ مليون)، إلا أن العملية تقرأ أيضا من زاوية أخرى لها دلالتها التي لا ينبغي إغفالها. إذ هي من القرائن التي تؤكد تراجع أولوية القضية في العالم العربي، الغارق في مشكلاته القطرية الداخلية التي يقترب بعضها من الحروب الأهلية، ليس ذلك فحسب، لأن الأمر لم يعد مقصورا على الانكباب على الداخل، وإنما تزامن ذلك أيضا مع تعدد الاختراقات التي أحدثتها إسرائيل في العالم العربي، ووصلت إلى حد ادعائها أنها صارت جزءا من تحالف الدول العربية السنية المحارب للإرهاب.لو أن رؤساء الدول الإسلامية توافدوا على جاكرتا واصطفوا هناك كي يعلنوا عن دعمهم للقضية الفلسطينية والدفاع عن القدس، لفهمنا وقلنا إنهم أرادوا أن يوجهوا رسالة إذكاء للوعي إلى العالم الإسلامي ولتعلقنا بوهم نقل القضية المركزية إلى ذلك العالم. لكني حتى ذلك الوهم جرى استبعاده. لأن القمة لم يشترك فيها سوى الرئيس السوداني عمر البشير والرئيس المفترض محمود عباس. والمؤتمر لم يرأسه الرئيس الإندونيسي لكنه عقد تحت رعايته وخاطب أعضاءه من خلال وزير الخارجية، ورأس جلساته أحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الإندونيسي. وفي غياب الرؤساء هبط مستوى التمثيل، فأوفدت مصر وزير الخارجية بدلا من رئيس الوزراء الذي كان مقررا أن يمثلها، وحضر نائب رئيس الوزراء التركي ورئيس الوزراء الليبي ورئيس مجلس الشورى في سلطنة عمان، أما بقية الأقطار فقد قام وزراء الخارجية بتمثيلها.لم أفهم لماذا عقدت القمة الاستثنائية أصلا خصوصا إن الرسالة في تواضع تمثيل الدول الإسلامية كانت واضحة. وهو التواضع الذي حاول بيان القمة أن يرتقي به على المستوى اللغوي، لأن البيان الذي صدر عن المؤتمر ظل محتفظا بفصاحة بيانات القمم الحقيقية. الأمر الذي يعني أن الثابت في الموضوع هو اللغة فقط تشهد بذلك الإشارة إلى مركزية القضية. أما التوحش الإسرائيلي في فلسطين والإصرار على اقتحام المسجد الأقصى وتهويد المدينة المقدسة، والالتزامات المطلوبة لتعزيز صمود الفلسطينيين في القدس، فتلك غدت أمورا ثانوية لم ينشغل بها البيان مكتفيا بالعبارات الطنانة التي لا تقدم ولا تؤخر كما أننا شبعنا منها.بعد ابتذال مصطلح القضية المركزية، ليتنا نتنازل عنه ونكف عن استخدامه، لأن طموحنا الآن لم يعد يتجاوز مجرد رد اعتبار القضية وأخذها على محمل الجد.