16 سبتمبر 2025
تسجيلبعد ساعات من نشر تصريحات مساعد وزير الداخلية التي تحدى فيها إثبات وجود حالة واحدة للاختفاء القسري في مصر، قدمت اثنتان من المنظمات الحقوقية طلبا إلى وزير الداخلية للإفصاح عن أماكن اختفاء ١١ شخصا حددت أسماءهم وتواريخ اختفائهم. حدث ذلك يوم الأربعاء الماضي ٤/١١ الذي نشرت فيه الصحف كلام مساعد الوزير لشؤون السجون اللواء حسن السوهاجي.. أما المنظمتان الحقوقيتان فهما مؤسسة حرية الفكر والتعبير والمنظمة المصرية للحقوق والحريات. وكانت جريدة «الشروق» ضمن الصحف التي أبرزت تصريحات مساعد الوزير يومذاك. وإلى جوارها نشرت وقائع مؤتمر صحفي دعت إليه لجنة الحريات بنقابة الصحفيين وحضره عدد كبير من أهالي المختفين قسريا والذين تعرضوا للتعذيب إلى جانب آخرين من الحقوقيين والقانونيين. وفي المؤتمر أعلن جمال عيد مدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان أن عدد المسجونين السياسيين تجاوز ٦٠ ألف شخص. وقال عضو مجلس نقابة الصحفيين خالد البلشي إن «لدينا قائمة طويلة من المختفين قسريا والذين تعرضوا للتعذيب». وذكر جورج إسحاق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان أن المجلس تلقى شكاوى بوجود ٥٧ حالة اختفاء قسري وأنه قام بتوثيقها. وكان مركز «النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب» قد تحدث في آخر تقرير له عن توثيق ٩٣ حالة اختفاء قسري إضافة إلى ٤٣ حالة ظهور بعد الاختفاء.يبعث على الدهشة ويثير البلبلة ذلك التناقض بين تصريحات مساعد وزير الداخلية التي أطلقها في احتفال أقامته الوزارة بمناسبة الإفراج عن بعض الغارمات، وبين معلومات الحقوقيين بمن فيهم بعض أعضاء المجلس القومي المعين من قبل الحكومة. صحيح أن الداخلية لم تذكر شيئا عن أعداد المسجونين السياسيين، إلا أن الرقم الذي أعلنه الأستاذ جمال عيد ووصل بعددهم إلى ستين ألفا بدا متجاوزا التقدير الشائع والمتعارف عليه الذي قدرهم بنحو ٤٠ ألف شخص. وحين راجعته في ذلك قال إنه يعتبر الستين ألفا حدا أدنى. وهو يشمل الموجودين في ٤٢ سجنا مصريا يتكدس فيها النزلاء، حتى إن سجن برج العرب وحده يضم وراء جدرانه ثمانية آلاف مسجون. وأكد لي أنه مطمئن إلى الرقم الكلي الذي أورده. وقد اعتمد فيه على مصادر موثوق فيها داخل جهاز الشرطة نفسه.فيما عدا ذلك فموقف النفي التام الذي تتبناه مصادر الداخلية يثير الانتباه من زاويتين. الأولى أنه متجاوز الموقف المراوغ الذي تبنته تلك المصادر ذاتها في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ذلك أنها كانت تعترف بالتجاوزات، لكنها كانت دائما ترجعها إلى «حالات فردية»، بما يعني أنها تعبر عن سلوك أفراد وليس عن سياسة الدولة. أما في الوقت الراهن فالنفي بات وقاطع. إلى الحد الذي دفع مساعد الوزير إلى تحدي إثبات حالة واحدة من الاختفاء القسري أو التعذيب.من ناحية ثانية، فإن الموضوع ليس خلافا في الرأي تتباين فيه الاجتهادات وتكون لكل طرف وجهة نظره فيه، ولكنه حديث عن معلومات تتحدث عن أسماء وأرقام تنفيها الداخلية بالكلية. إذ في حين يتحدث عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان الذي يفترض أنه أقرب إلى الحكومة عن توثيق ٥٧ حالة اختفاء قسري نجد أن مساعد الوزير ينكر ذلك تماما، وليس ذلك هو الموضوع الخلافي الوحيد، لأن التعارض قائم أيضا في موضوع التعذيب وفي كل ما يتعلق بحقوق المسجونين السياسيين الذين تسجل المنظمات الحقوقية المستقلة الانتهاكات المستمرة لهم. خصوصا حقوقهم في العلاج والغذاء والزيارة والتواصل مع المحامين.. إلخ. حتى زيارات المنظمات الحقوقية للسجون التي قال مساعد الوزير إن الأبواب مفتوحة لها جميعا، هذه أيضا اعتبرها النشطاء معلومة غير صحيحة لأن ذلك محظور على المنظمات المستقلة ومسموح فقط وبشروط معينة للمجلس الحكومي ولبعض أعضائه دون البعض الآخر.ثمة ملاحظتان يوردهما الحقوقيون في هذا السياق. الأولى أن مساعد الوزير نفى التعذيب والاختفاء القسري في السجون، إلا أنه لا يستطيع أن يعمم النفي على ما يجري داخل سلخانات بعض أقسام الشرطة أو مقار جهاز الأمن الوطني الخارجة عن ولاية السجون، والثانية أنه نسب المعلومات المتعلقة بالانتهاكات إلى المصادر الإخوانية للتشكيك فيها، متجاهلا أن المصدر الأساسي لها هو المنظمات الحقوقية المستقلة والمحايدة التي يبذل نشطاؤها جهودا هائلة ويدفعون أثمانا باهظة لأداء رسالتهم.كيف نضع حلا للبلبلة والغموض الذي يكتنف الموضوع؟ ــ في رأي الأستاذ نجاد البرعي الحقوقي البارز ورئيس مجموعة المحامين المتحدة إن الأفق مسدود، وإن الحقيقة ستظل غائبة طالما أنه لا تتوافر إرادة سياسية لحسم المسألة. وإن استمرار البلبلة مقصود لترويض الرأي العام وتهيئته للتعامل مع الاختفاء القسري والتعذيب باعتبارها ممارسات عادية، مثل حكاية «التصفية» التي كثر الحديث عنها حتى أصبحت خبرا عاديا رغم خطورتها. الأستاذ جمال عيد لا يذهب بعيدا في التشاؤم واقتناعه بانسداد الأفق، لكنه يراهن على ضغوط الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني، وفي رأيه أن الضغط الشعبي وحده الحل، وهو ما أثبتته تجارب الآخرين في دول أخرى في أمريكا اللاتينية والمغرب والجزائر وغيرها. وهو يدعو إلى تحرك أسر وأهالي المختفين وضحايا التعذيب بحيث يعربون عن احتجاجهم ولو بالجلوس في أي مكان عام بصورة سلمية ومنتظمة، حتى إذا تم ذلك لمدة ساعة واحدة كل أسبوع.لقد تواضعت طموحاتنا وتراجعت بحيث نسينا الثورة وأهدافها وأصبح من بين أمنياتنا إظهار المختفين قسريا ووقف التعذيب لاحترام إنسانية الضحايا وكفكفة دموع الأمهات والزوجات.