15 سبتمبر 2025
تسجيليُخطئ من يتصور أن الجدل الدائر في مصر حول تدخل الجيش في الاقتصاد أو في غيره من مجالات الخدمة المدنية يمثل نقدا للجيش أو غمزا في دوره. وهي الحجة التي يسوقها البعض لمصادرة المناقشة وإغلاق بابها، لأنها تطرح على المتحاورين السؤال الغلط الذي يخيرهم بين أن يكونوا مع الجيش أو ضده. وتلك صيغة ماكرة لوضع أحد أطراف المناقشة في المربع الغلط، بالتشكيك في موقفه وتوجيه بلاغ مضمر ضده للأجهزة الأمنية التي تتولى اتخاذ «ما يلزم» لحسم الحوار بأساليبها المعروفة. ذلك أن الجوهر الحقيقي للمناقشة هو كيف يمكن التوفيق بين المسؤوليات العارضة (التي تحملها القوات المسلحة) في الداخل، وبين مسؤولياتها الأصلية والكبيرة في الدفاع عن الوطن. وكيف السبيل إلى الحفاظ على مكانة القوات المسلحة ودورها في حماية الوطن والدفاع عن كرامته. والجملتان الأخيرتان أوردتهما نصا في مقالي الأخير الذي نشر يوم الثلاثاء ٦ سبتمبر، الذي سجلت فيه بعض التحفظات التي أبداها غيري ــ وتضامنت معها ــ على فكرة عسكرة الاقتصاد فضلا عن السياسة في مصر. وحرصت على أن أستشهد فيه بآراء بعض أهل الموالاة ممن كانوا في قلب التغيير الذي أسهم فيه اسمي بائتلاف ٣٠ يونيو.الفكرة التي طرحتها مع غيري تنصب على الرؤية السياسية وليست على القوات المسلحة، كما أنها ليست جديدة تماما، لأن الجدل حول الموضوع أثير عقب «نكسة» يونيو ١٩٦٧. وفي ثنايا مناقشة الأسباب التي أدت إلى الهزيمة، ولدى شهادتان ثمينتان في هذا الصدد إحداهما للفريق أول محمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة ووزير الدفاع والمشير عبدالغني الجمسي رئيس الأركان الذي صار لاحقا نائبا لرئيس الوزراء. وقد أوردهما المشير الجمسي في مذكراته. التي طبعتها هيئة الكتاب مرتين في عام ١٩٧٩ وأهمية الشهادتين تكمن في أنهما صادرتان عن اثنين من القامات الرفيعة في التاريخ العسكري المصري، ولا يستطيع ــ ولا يجرؤ ــ أحد على أن يتساءل عما إذا كانا مع الجيش أو ضده.نقل المشير الجمسي عن الفريق فوزي في شهادته أمام لجنة التاريخ ــ بعد الهزيمة ــ أن من أسباب النكسة «دخول القوات المسلحة في الإصلاح الزراعي والإسكان والنقل الداخلي وأعمال مباحث أمن الدولة والسد العالي وأشياء أخرى كثيرة. وكان للقوات المسلحة مندوبون في هذه الجهات يمثلون القمة، أي يمثلون المشير عامر وشمس بدران.. ويهمني في هذه النقطة من الناحية التاريخية القول بأن انتشار سلطة القوات المسلحة في مختلف نشاطات الدولة أخرجها أو قلل اهتمامها بمسؤولياتها الأساسية، وهي إعداد القوات المسلحة للقتال»، (ص١٣٢).في حديثه عن إعادة بناء القوات المسلحة بعد الهزيمة، ذكر المشير الجمسي في شهادته ما يلي: كانت الخطوة الرئيسية الثالثة لإعادة البناء هي إبعاد قواتنا المسلحة عن كل عمل مدني سبق تكليفها به. فقد أعيد الضباط الذين يعملون في قطاعات مدنية إلى وظائفهم العسكرية أو تم نقلهم نهائيا إلى وظائف مدنية. وتم إلغاء وحدات غير مقاتلة كانت مكلفة بأعمال مدنية من اختصاص وزارات أخرى، وبذلك احترفت القوات المسلحة عملها العسكري فقط. وقد كانت هذه الخطوة من أفضل ما اتخذته القيادة السياسية مع القيادة العسكرية في تلك المرحلة، بعد أن كانت القيادة العليا للقوات المسلحة قد زحفت إلى أعمال مدنية لا شأن لها بها، حتى أصبح المشير عامر في وقت من الأوقات رئيسا «للجنة تصفية الإقطاع».. وفي إطار هذه السياسة التي قضت بتفرغ جميع قيادات ووحدات القوات لواجبها الطبيعي وهو العمل العسكري في شؤون الدفاع عن الدولة، صدرت قرارات جمهورية بنقل وحدات حرس الجمارك إلى وزارة الداخلية، ونقل وحدات مراقبة التموين إلى وزارة التموين. كما تم إلغاء وحدات الزراعة التي كانت تشمل أكثر من ثلاثة ألوية من الجنود والضباط والعربات. مكلفة بزراعة خمسين ألف فدان في مديرية التحرير ونقلت جميعها إلى وزارة الزراعة. وألغيت وحدات النقل العام بمدينة القاهرة، والتي كان فيها عناصر كثيرة من إدارة المركبات والشرطة العسكرية، حيث أعيدت كلها إلى مؤسسة النقل العام.